عبدالرحمن الحبيب

إذا كان العالم قد تفاجأ بفوز ترامب عام 2016، فإنه هذه المرة كان متوقعاً فوزه ومستعداً لنمطه في السياسة الخارجية، لكن من ضمن هذا النمط المعروف هو توقع غير المتوقع، أو ما يردده بعض الباحثين والمحللين «معرفة غير معروفة» (unknown knowns)، ويُقصد بها عوامل يمكن فهمها ولكن تأثيرها الكامل لا يزال غير مؤكد.

على سبيل المثال، قد نعلم أن هناك خطرًا يتمثل في دخول منافس جديد إلى السوق، ولكننا لا نعرف مدى احتمالية حدوث ذلك أو التأثير الذي قد يخلفه على أعمالنا.

بالأساس سياسة ترامب الخارجية مبنية على تعاملات تجارية مع الدول، ونزعة اقتصادية للسياسة الدولية، وتعزيز القومية والأحادية على حساب تعددية الأطراف، حسب ما يطرحه توماس رايت (معهد بروكينغز)، حيث لا يوجد لدى إدارة ترامب أصدقاء دائمون ولا أعداء دائمون، بل معاملات تجارية مع الدول، عبر قيمة قليلة للعلاقات التاريخية والحلفاء والشركاء، وتحقيق فوائد فورية تتراوح بين التجارة والمشتريات والدعم الدبلوماسي.

إنما يرى بعض المحللين أن سياسة ترامب ليست أساسها فقط التجارة والسياسة الاقتصادية، بل يتعلق الأمر بالضغط على المكسيك وكندا والصين؛ لتغيير سياساتها بشأن الهجرة والنشاطات غير المشروعة، فترامب يستخدم الرسوم الجمركية كسلاح دبلوماسي، بل وحتى كوسيلة لإجبار الدول الأخرى على القيام بأشياء يريدها، في قضايا لا علاقة لها بالتجارة العالمية. كما يقول جون هانا (مستشار أمريكي سابق في الأمن القومي): «عندما نتحدث عن ترامب هنا، فكل مهارته هي في عقد الصفقات، فهذا هو الحمض النووي الخاص به، أي الذهاب في تحديد مطالب متطرفة إلى أعلى المستويات ومن ثم التراجع لتحجيمها عند الضرورة عندما يلبي الجانب الآخر احتياجاتك الأساسية، ثم إعلان النصر والمبالغة في تسويقه». لكن البعض يرى أن ترامب مجرد «رجل الرسوم الجمركية»، وأن نجاحه الأكبر هو في المبالغة بتسويق أدائه.

الآن، من أهم ما يراقبه العالم في سياسة ترامب الخارجية هي العلاقة مع الصين، حيث وصف جيمس مان نهج ترامب تجاه الصين، بأنه يجسد النهج الشخصي لرجل الأعمال السابق للشؤون الدولية، معتقداً أن جاذبيته الفردية يمكن أن تلغي المصلحة الوطنية الخاصة للشركاء المتفاوضين.. يقول عن فترة رئاسته الأولى: «كان ترامب يسعى إلى أن يفعل مع الصين ما حاول فعله أيضًا مع كوريا الشمالية، لمحاولة حل المشاكل المعقدة التي طال أمدها عن طريق إقناع الزعيم الأعلى لدولة أخرى بطريقة ما بعكس المسار من خلال الاتصال الشخصي مع ترامب نفسه»؛ عن كتاب بعنوان «رئاسة دونالد ج. ترامب: تقييم تاريخي أولي» (2022).

الباحثة ليزي سي لي، من مركز تحليل الصين بمعهد السياسات التابع لجمعية آسيا، أعدت تقريراً مطولاً ترى فيه أن بكين مستعدة بالفعل لعودة ترامب عبر «تحديات معروفة ومخاطر غير معروفة» التي أشرنا لها في مقدمة المقال، أو حسب وصف دونالد رامسفيلد، الخبير في الأمن القومي، تتضمن استراتيجية بكين للمخاطر في التعامل مع إدارة ترامب الثانية، كل من المعروف والمجهول بمقادير مختلفة، وفي مقدمتها نجد الأكثر شيوعا «المعلومة المعروفة»: الرسوم الجمركية التي من المتوقع أن تصل ما بين 10 % إلى 20 % على جميع الواردات و60 % إلى 100 % إضافية على الواردات الصينية. ومن عجيب المفارقات - حسب الباحثة - أن هذه القيود قد تؤدي إلى تفاقم التضخم في الولايات المتحدة إذا تسببت الرسوم الجمركية التي سيفرضها ترامب في تعطيل سلاسل التوريد القائمة دون بدائل قابلة للتطبيق.

ويتوقع الخبراء الصينيون حكومة متشددة في فترة ولاية ترامب الثانية، مع شخصيات مثل صقر التجارة روبرت لايتهايزر تشير إلى نهج أكثر حماية ومواجهة، على عكس إدارة ترامب الأولى، حيث كانت أصوات مثل ستيف منوشين تخفف من سياساته أحيانًا، فإن الفريق المتشدد الموحد من المرجح أن يترك مجالًا ضئيلًا للاعتدال، حسب الباحثة ليزي التي تذكر أنه لتعزيز موقفها، كثفت بكين التدابير المضادة ضد الشركات الأمريكية، وتحولت من إطلاق طلقات تحذيرية إلى توجيه ضربات ملموسة.

إن موقف ترامب المناهض للعولمة مألوف، وبالنسبة لبكين، يتردد صدى خطاب ترامب الانعزالي مع موجة متصاعدة من الشعبوية في جميع أنحاء أوروبا وأجزاء من آسيا، مما يخلق تيارات أيديولوجية تتحدى وتعقد تطلعات الصين العالمية.. وقد تنظر بعض الأصوات القومية في الصين إلى نهج ترامب «أميركا أولاً» كفرصة من خلال منطق بسيط: إذا تراجعت الولايات المتحدة عن الأطر العالمية أو عن تحالفات مثل حلف شمال الأطلسي، فقد تنظر دول أخرى إلى الصين كبديل. لكن خبراء السياسة المخضرمين في بكين يؤكدون أن الصين تدرك أن إمكانية تفتت التحالفات الغربية لا يعني أن «التحول» الشامل نحو بكين مرجح.

وقد تتحول سياسة ترامب الخارجية بشكل مفاجئ في العلاقات مع روسيا مما له آثار كبيرة على بكين، وربما يؤدي التحالف بين ترامب والرئيس الروسي بوتن إلى إجهاد علاقة الصين بموسكو، مما قد يؤدي إلى عزل بكين داخل منظومة القوى العظمى.. ومع التعريفات الجمركية والقيود التجارية والخطاب الحاد، يبدو الرئيس المنتخب مستعداً لاتخاذ موقف مع الصين أكثر صرامة من السابق.