علي عبيد الهاملي
لفت نظري الأسبوع الماضي خبر من غزة الفلسطينية، ومقطع فيديو من حلب السورية.
الخبر يتحدث عن مقتل سيدتين وفتاة إثر تدافعٍ للحصول على الخبز أمام مخبز في مدينة دير البلح وسط قطاع غزة، وذلك في ظل تحذيرات من نقص حاد في هذه المادة الغذائية.
وقد أعلن مستشفى «شهداء الأقصى» في بيانٍ مقتل السيدتين والفتاة بسبب التدافع والازدحام.
وقالت شاهدة عيان: «كان الازدحام والتدافع شديدين أمام المخبز، فجأة حدث صراخ شديد، سقطن على الأرض واختنقن من التدافع، بينهن فتاة صغيرة».
وأضافت الشاهدة: «فقدن حياتهن من أجل شراء الخبز فقط، رأيتهن أمامي، ما يحصل لنا لا يمكن تحمله. حسبنا الله ونعم الوكيل».
بدوره، قال والد الفتاة القتيلة أمام ثلاجة الموتى في المستشفى: «لا أعرف ماذا حصل.
ذهبت إلى السوق مع ابنتي.
ذهبَتْ هي تشتري خبزاً، بالكاد حصلَتْ على ربطة الخبز حتى انجرفت مع النساء».
وأضاف: «أخرَجوها جثةً هامدةً من المكان».
أما مقطع الفيديو الذي شاهدته على إحدى القنوات الفضائية الإخبارية العربية، وهو من مدينة حلب السورية، التي بدأ منها انهيار نظام حزب البعث ليمتد إلى المدن الأخرى، قبل أن تسقط دمشق والنظام كله يوم 8 ديسمبر، فقد ظهرت فيه فتاة ورجل يتسلمان عدداً من ربطات الخبز.
تضم الفتاة ربطة الخبز إلى صدرها، كأنها تحتضن رضيعاً تخشى أن يسقط من يدها، بينما يغمرها الفرح والبهجة كأنما حصلت على كنز ثمين بعد طول انتظار.
أتأمل الخبرين والصور والفيديوهات المصاحبة لهما.
يذهب بي الخيال بعيداً، إلى حيث كانت أمانينا تتجاوز الحصول على ربطة خبز إلى أشياء أهم وأكبر من مستلزمات المعيشة اليومية كلها، إلى الحرية وتحرير الأوطان من المحتلين والغاصبين، إلى بناء أوطان لا يشتكي أحد فيها من نقص في الغذاء والملبس ومستلزمات المعيشة كلها، إلى أوطان لا يتعارك فيها النساء والفتيات والأطفال من أجل الحصول على ربطة خبز لا تقيم أود أسرة صغيرة ليوم واحد أو أقل من يوم، إلى أوطان تصدّر الخبز والحرية إلى البلدان والشعوب الأخرى، وأتساءل: ترى من أوصلنا إلى هذه الحالة المزرية البائسة، إلى موت فتياتنا ونسائنا وهن يتدافعن للحصول على ربطة خبز صغيرة، إلى احتضانهن لربطة خبز وكأنها كنز ثمين يخفن أن يفقدنه أو يتفقدنه فلا يجدنه، ليمتن هن وأسرهن من الجوع والبرد والقهر والبكاء على الأوطان المنكوبة.
سوف يحاسب التاريخ كل من جعل نساءنا يتدافعن وسط الزحام إلى درجة التضحية بأنفسهن من أجل الحصول على ربطة خبز تقيم بالكاد أود أسرة صغيرة تعيش زمناً رديئاً ولا أسوأ منه، لكنه سيحاسب أيضاً كل من ساعد على تأزيم الأوضاع في هذه الأماكن والمناطق إلى الدرجة التي أصبحت النساء تموت فيها بهذه الطريقة البشعة، وعندها سيجد المؤرخون وغير المؤرخين أمامهم قائمة طويلة من أولئك الذين خدعوا الشعوب، وغرروا بها، وقدموا نساءها وأطفالها وكبار السن والعجزة من أبنائها قرابين على مذبح الوطن بسبب حساباتهم الخاطئة وقراراتهم الخرقاء غير المدروسة وبطولاتهم المزيفة.
الخبز كان واحداً من أهم مطالب الشعوب دائماً برمزيته التي تعني البحث عن الحياة في أبسط مطالبها، وليس بمفهومه المادي المعروف، لذلك سخر التاريخ، وتناقل الجميع عبارة ماري أنطوانيت الشهيرة عندما قالت معلقة على تظاهرات الشعب الفرنسي من أجل الخبز: «إذا لم يجدوا الخبز فلماذا لا يأكلون البسكويت؟».
ورغم أن الكثيرين يقولون إن هذه العبارة ملفقة وغير صحيحة، إلا أن الجميع يتفقون على صحة نصيحة المستشار الاقتصادي تورغوت لزوجها الملك لويس السادس عشر «لا تتدخل في الخبز».
الخبز هو آخر ما كنا نتصور أن تموت من أجل الحصول على ربطة منه نساؤنا، وتحتضنه فتياتنا بعد أن كانت أحلام شعوبنا تعانق عنان السماء، وطموحاتها تسابق الريح لتصل إلى ما وراء الأفق، قبل أن تأتي المنظمات الدولية ومؤسسات الإغاثة الإنسانية كي توزع ربطات الخبز على نسائنا وفتياتنا المتزاحمات أمام المخابز بين ركام البيوت المهدمة والجوامع والكنائس ودور العبادة المنتهكة حرمتها.
(الموت من أجل ربطة خبز) عنوان كنت أتمنى ألّا أضعه لمقال كنت أتمنى ألّا أكتبه، لكنني، مع الأسف، كتبته.
التعليقات