الحديث عما يحدث في سوريا كالمشي على الشوك، فليس سهلاً العمل على تفكيك المشهد وترتيبه من جديد، أمام هذا "التسونامي" غير المتوقع بالصورة التي حدث فيها. فبعد ثلاثة عشر عاماً من الصراع، وعدد كبير من اللقاءات السياسية في العواصم المختلفة، وكمٍّ لا بأس به من القرارات الدولية والاجتماعات بين الدول المحيطة بسوريا والمتعلقة بالتطورات فيها، وبعد ملايين اللاجئين السوريين في الخيام أو مدن الصفيح، وعشرات الألوف في سجون تحت الأرض، تظهر من جديد "المسألة السورية" على السطح وبقوة، بعدما مرّ أكثر قليلاً من عقد من الزمن منذ اشتعال فتيلها. يطرح البعض سؤالاً ساذجاً، لماذا سقط نظام الأسد؟ والجواب لمن يتدبر التاريخ واضح، فمقدمات السقوط جلية، إنه القمع. عندما يسود القمع تتوسع السجون، ويزداد عدد العسس، وتكمم الأفواه وتموت الحرية. وجدنا ذلك في نظام الشاه في إيران، ونظام القذافي وبن علي والبشير، وصدام حسين. في أنظمة القمع، تتوسع ثقافة الخوف وينشر الرياء، فليس غريباً أن يسقط نظام بشار بالطريقة التي سقط فيها. قد ينفع القمع لفترة، ولكنه يحمل عناصر فنائه في ذاته، فتتراكم الكراهية حتى تنفجر الشعوب. المعارضة السورية على الرغم من الكم الكثير من التصريحات لشيطنتها، فهي تقول إنها أولاً أصبحت شبه موحدة، بعد التشرذم الذي جرى لها. هي اليوم تعرف أن ذلك الخلاف هو الذي أبعد الآخرين عن فهم مقاصدها، وثانياً تقول إنها ليست ضد أحد، بل إن بعض تصرفاتها تبدو معقولة في ساحة المعركة، فلم يكن هناك "ثأر" على نطاق واسع للمخالفين لمن يتابع المشهد القتالي المتسارع. عوامل الدفع لهذا الحراك العسكري كثيرة، منها المتغيرات في المنطقة، ومنها الإهمال التام للحاجات الأولية للسكان من قبل السلطات الرسمية، ومنها التسلط القمعي والأجنبي الذي توسع أيديولوجياً حتى ضاقت به شرائح واسعة من الشعب السوري نفوراً، إلا أن الأهم هو تباطؤ أو قلة اكتراث للنظام للعمل الجاد على تغيير سياسات قديمة ثبت فشلها. التصريحات الواردة من عواصم العالم، حتى قبل سقوط دمشق، تؤشر إلى ضيق تلك العواصم باستمرار الانسداد، كما ضيقها بوجود ملايين من المشردين السوريين، سواء في تركيا أو الأردن أو لبنان، أو المهاجر، أو حتى في الداخل بعيداً من مواطنهم الأصلية. السنوات العشر أو يزيد من الصراع في سوريا أصبحت معها البلاد تحت واقع مقسم بين الدول القريبة والبعيدة، وتدهور الاقتصاد وساد الفساد، وتعمقت أقبية السجون، فلم تعد دولة، أصبحت كيانات. الاتحاد الأوروبي فسّر ما يحدث كما تم التصريح به "أنه بسبب تعنت بشار"، والولايات المتحدة أيضاً حملت المسؤولية في تصريح واضح لبشار، بل إن الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة "يدينان قصف المدنيين بالطائرات"، أما بريطانيا فإنها تضع المسؤولية كما نشر في تصريح رئيس وزرائها على بشار الأسد! في الوقت الذي يتوزع السوريون على نحو 1400 مخيم، من هجرة داخلية وهجرة خارجية، وموت في البحار أو سجون مظلمة، تفتقر سوريا وتتصحر. تعلمت الفصائل أن في تشرذمها بقاء أهلها في مخيمات لفترة أطول، وتوسع السجون لمساحات أكبر. الموقف اليوم مختلف، وربما هو الأصعب، فكيف تخرج سوريا من مأزق ما أوصلها النظام إليه، ربما الأيام المقبلة تحتاج إلى شجاعة أكثر مما احتاجت الفصائل المسلحة للوصول إلى العاصمة. كيف يمكن ترميم الوضع السياسي الذي أصابه الوهن طوال تلك السنوات العجاف، فالخوف أن تعاد كرة اللجوء إلى القمع، وهي مخاوف قائمة، أو الصراع بين المكونات، أو المزايدة، والأخيرة قاصمة ظهر السياسات العربية دائماً. المطلوب من السلطة الجديدة خارطة طريق مقنعة تهدئ من روع الجمهور السوري، وأيضاً الجوار وتضم الأطياف المختلفة والتي لم تتلوث بدم السوريين، وربما التفكير "خارج الصندوق" في اجتراح الحلول. الأيام المقبلة صعبة، و العاقل من اتّعظ بغيره.