ليلى أمين السيف

كلنا تابع بعض المشاهد في الأفلام، حيث يجلس «المريض» أمام المعالِج النفسي الذي يُحسن الإصغاء، بينما المعالج صامت كأبي الهول، لا يُلقي موعظة ولا يتحفنا بدروس الحياة. أما عندنا، فكل من استمع إلى أحدهم يشتكي، تحول إلى «أستاذ في الفلسفة» وبدأ يردد: «الله يعينك»، «هي كدا الدنيا دار ابتلاء»

«معليش اصبر، الجنة مهرها غالي»

«أنت لو تشوف غيرك، إيش تقول»

«أنت اللي اخترت ، ليش تشتكي الآن»

أرجوكم يا عالم ميِّزوا..

دعونا نُفرّق بين «الشكوى» و«الفضفضة»، فـ«الفضفضة» هي تلك اللحظة التي تفيض فيها الكلمات بلا قيود، كالنهر الذي يبحث عن مجرى. أما الشكوى، فهي طقس له طقوسه، حيث يتوقع الإنسان حلولاً أو على الأقل تعاطفاً ملموساً.

ذات مرة ألمَّ بي حادث جلل، خرجت للشارع، صرخت بصوت عال وبكيت، ولو كانت الجبال تفصح عن مشاعرها لخارت حزناً وكمداً.

ثم ويا للغرابة وبعد كذا يوم مارست حياتي بشكل طبيعي. كنت أعلم أنه لن يفهمني في تلك اللحظات سوى ربي.

عزمتني زميلة على الغداء في أحد مولات جدة وقالت لي: ستأتي فتاة من أقاربنا وتريد مناقشتي في أمر ما فقلت: «إذاً سأذهب بعيداً كي لا أحرجها» ، طلبت مني أن أبقى فهي قد أخبرتها عني.

عموماً بعد انتهاء الفتاة من سرد مشكلتها، بعدها ناقشتها في أمور ما بخصوص موضوعها. وسألتها: «أتريدين النصيحة أم جئت فقط لتفرغي ما بداخلك»، واستسمحتها ببعض النصائح، فقد كانت صغيرة السن ومشكلتها مما لا يبرؤ حلُّه بجرة قلم.

قالت لي بعدها: «أنتِ أول شخص ألتقي به ويفهم ما أريد. أنا لا أشكو ما بي، أنا فقط أريد إفراغ ما بداخلي.

لا أريد طبطبة ولا أريد دعاء أو حتى تثبيت آرائي فقد تكون خطأ. لكنني أردت أن أزيح هماً كان جاثماً على صدري ومجرد كلام لا بيقدم ولا بيأخر.

ومن ذا الذي لا يفضفض؟

إنه ذاك النوع الذي يحمل الجبال على ظهره دون أن ينبس ببنت شفة. مثل هؤلاء هم الذين قال عنهم الشاعر:

ولا تشكُ للناس جُرحًا أنت صاحبهُ

لا يُؤلم الجرح إلا مَن به ألَمُ

هؤلاء لا يفضفضون ولا يشكون، ليس لأنهم أقوى، بل لأنهم يعلمون جيداً أن الغالبية لن تفهم؛ لذلك اختاروا الصمت وجوباً، فقد يكون أحدهم شايل جبالاً من الأحزان، ولكنه لا يحكي لأنه لم يعتد الكلام ولأنه علم سر الحياة فلجأ إلى ملاذه الروحي.

«الدعاء» راحة وشفاء فليس الكل يفهم وليس الكل يشعر.

والذي يفضفض ليس كافراً أو قليل إيمان أو ساذجاً أو متبطراً.. الأمر مجرد إفراغ القديم ليستطيع استيعاب الجديد.. إنها حالة إنسانية بحتة.

قد تكون مستمعاً جيداً فتقرأ مشاعره وتفهم مكنوناته وقد تضغط على زر «الخلاص».. وقد تأتي بالحلول تلميحاً لا تصريحاً، ولكن دورك هنا ليس وعظاً وإرشاداً وإنما حضور وإنصات.

استمع جيداً افهم شخصية من يشاركك مكنوناته وبالتأكيد أنت تفهمه وتعرفه لأنه اختارك أنت.

ولكن سبحان الذي خلق «الغباء»، حيث تجد من يتفذلك أمامك بالنصح والوعظ والإرشاد.

يا عالم يا هو افهموا .. فصاحبنا لا يريد حلولاً؛ لأنه بالتأكيد يعلم كيف يحل مشاكله فهو أخبر بظروفه ولكنه يريد أن يثرثر الآن ، يريد أن يعيش مشاعر معينة في هذه اللحظة.

أعطه هذه المساحة..

لكن بعضهم للأسف لم يقدِّر نعمة أن يكون محطة فضفضة. لم يتعلم ما هو الاحتواء وكيف تكون الطبطبة، وأصبح فجأة أستاذاً في الفلسفة وخبيراً في الفذلكة.

أنصتوا بعيونكم وأرواحكم،

أنصتوا بقلوبكم يرحمكم الله.

** **

- كاتبة يمنية مقيمة في السويد