محمد خلفان الصوافي

للوهلة الأولى، يبدو أنه لا توجد علاقة بين الموضوعين اللذين جاءا في عنوان المقال؛ لأن المجالين بعيدان عن بعضهما البعض بمسافة كبيرة. لكن الذي دفعني إلى تناوله والكتابة عنه أنني تفاجأت بسؤال من محاورة في إحدى القنوات التلفزيونية المحلية أثناء مشاركتي في تغطية مباشرة لفعاليات «مسيرة القبائل»، التي يتم من خلالها تجديد العهد والولاء للقيادة السياسية وفق الأعراف والتقاليد، والتي أقيمت يوم السبت الماضي في مدينة الوثبة بحضور صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، حفظه الله.

وقد جاء السؤال الذي لم يخطر على ذهني، بعد أن ألقى أحد الشعراء المدعوين في القناة المحلية قصيدة وطنية حماسية بمناسبة «مسيرة عيد الاتحاد الـ53» وكان على شقين: هل يمكن الاستفادة من الشعر في العلاقات الدولية، ومتى يكون الشاعر سفيراً لبلاده؟

أسعفتني ذاكرتي باسترجاع تطور مهم حدث في علم العلاقات الدولية يمكننا الاستفادة منه في الإجابة عن هذا السؤال المفاجئ، وهذا التطور له علاقة بقناعات دارسي العلوم السياسية وهو: أن هذا التخصص (علم السياسة) من العلوم الإنسانية يتسم بالسيولة والانفتاح على التخصصات الأخرى من العلوم لأنه يستطيع التكيف مع المفاهيم والمنهجيات التي نشأت في العلوم الأخرى. لذلك صغت إجابتي على النحو التالي:

أولاً، الشعر كقوة ناعمة: لم تعد هذه القوة التي نظّر لها جوزيف ناي أستاذ العلاقات الدولية في جامعة هارفارد الأمريكية 2004 جديدة أو غائبة على الناس. حيث اعتبرت هذه القوة التي تعتمد على ثقافة وإرث الشعوب في التأثير على شعوب دول أخرى. وعليه، فمن حيث التصنيف فإن الشعر والفنون الشعبية تندرج تحت مسمى الفن والثقافة عموماً ويندرج تحتها أيضاً المسرح الغنائي والتمثيل وغيرها من الفنون الأخرى، إذاً عندما نتحدث عن الشعر فإننا نتكلم عن أحد أنواع الفنون.

وفق ذلك، فإنه يمكننا أن نصنف الشعر ضمن أدوات القوة الناعمة للدول والتي باتت أكثر استعمالاً في العالم مقارنة بالقوة الصلبة، لأنها القوة الأقل تكلفة خاصة إذا ما تم توظيفها بالشكل الصحيح والمناسب وأعتقد أن تجربتي «شاعر المليون» و«أمير الشعراء» أسهمتا بطريقة جيدة لأن ينتشر اسم الإمارات في العديد من الدول العربية والإسلامية من خلال هذين البرنامجين بل أسهما في تحفيز دول أخرى في العالم العربي على تقليد واستنساخ هذه التجربة لتحقيق بعض المكاسب المعنوية.

ثانياً، الشعر بين الثقافة والسياسة: هناك دراسات في علم السياسة تعرف بـ«الدراسات البينية» هذه النوعية من الدراسات وهي التي يتم من خلالها تجاوز أسوار التخصص الدقيق للسياسة إلى تجاه تخصصات أخرى بهدف الوصول إلى آليات جديدة مشتركة بين السياسة والعلوم الأخرى ويضرب المثال هنا في قضية المناخ وأزمة الغذاء وحتى الأوبئة والأمراض.

وقد يبدو أن التراث الشعبي ومنه (الشعر) لا توجد بينه علاقة مع علم العلاقات الدولية ولكن في الحقيقة يمكن أن يكون الشعر والشاعر أيضاً سفيراً لوطنه وبإمكانه أن يتعدى حدود بلاده في التأثير على الآخرين وذلك عندما يستطيع أن يحول كلماته لتكون أدوات ذات تأثير في الشعوب.

ويزداد التأثير إذا ما استطاع الشاعر أن يخلق من خلالها «قضية إنسانية» عامة يشترك فيها الجميع ولا يمكن لأحدنا أن ينسى التأثير الذي أحدثه محمود درويش حول القضية الفلسطينية، كما أن لدينا فناناً إماراتياً أهدى الكثير من أغانيه لعدد من الشعوب العربية وغيرها وهو الفنان حسين الجسمي، فقد غنى للعراق ولمصر وتركيا كما أن الكثيرين يتذكرون المنشد سامي يوسف عندما غنى أغنيته الشهيرة «أمي» وترجمت للعديد من لغات العالم ومنها العربية.

الفكرة هنا، أنه مع التغيرات التي نشهدها بفعل «العولمة» وخاصة التغيرات الثقافية التي لا تعرف حدوداً جغرافية، تبرز أهمية الاحتفاظ بالإرث الثقافي مع إدخال تعديلات تواكب المرحلة التي شهدتها الدولة لأن هذه المفردات هي التي تعيد تشكيل الهوية التي تتراجع مع مرور الوقت. فالفنون الشعبية بكافة أشكالها لم تعد وسيلة للتسلية أو أنها مسألة رجعية بل هي وثيقة لشعب بأنه صاحب حضارة عميقة، وإلا لما كانت منظمة الثقافة والعلوم «اليونسكو» تجهد نفسها بتوثيق تلك الفنون الإنسانية.