في محيط يكاد يحترق من كل الجهات، تبدو الواحة الخليجية مجبرة على أن تكون في أعلى درجات اليقظة، لا لأن الأخطار بعيدة، بل لأنها قريبة إلى حدّ الملامسة. اليمن جنوباً لم يخرج بعد من منطق الحرب، والسودان شرقاً يتآكل بين العسكر والميليشيا، والعراق وسوريا ولبنان شمالاً تعيش حالات سيولة سياسية وأمنية مزمنة، بينما تفتح إسرائيل وإيران شهيتيهما الإقليميتين على مصراعيهما، كلٌّ بطريقته وأدواته، وبحسابات تتجاوز حدود الجغرافيا المباشرة. وفوق هذا كلّه يلوح متغيّر اقتصادي لا يقلّ خطورة، هو احتمال انخفاض أسعار النفط مع عودة نفط رخيص من روسيا، إذا حصلت تسويات دوليّة كبرى، ومن فنزويلا إذا تبدّل نظامها السياسي. السؤال الذي يفرض نفسه هنا ليس: هل الخليج في خطر؟ بل: كيف يمكن الحفاظ على الاستقرار وسط هذا الطوق المشتعل؟ الخطأ في قراءة المشهد هو الاعتقاد بأن الاستقرار حالة طبيعية، أو نتيجة تلقائية للثروة. التاريخ القريب في منطقتنا يقول العكس. دول غنية انهارت لأنها لم تُحسن إدارة السياسة، وأخرى محدودة الموارد تماسكت، لأنها أدركت مبكراً أن رأس المال الحقيقي هو الإنسان والمؤسسة. الاستقرار في الخليج لم يكن يوماً قدراً مجانياً، بل نتيجة إدارة سياسية حذرة، وتوازن دقيق بين الداخل والخارج، وبين الأمن والتنمية، وبين الصلابة والمرونة. واليوم، مع تسارع التحولات الإقليمية والدولية، لم يعد هذا التوازن ممكناً بالأدوات القديمة وحدها، ولا بالاطمئنان إلى أن العواصف ستتجاوز المنطقة من دون أن تمسّها. أول مفاتيح الاستقرار يتمثّل بتحصين الداخل قبل الانشغال بالخارج؛ فالدولة التي يثق مواطنها بمؤسّساتها، ويشعر بأن مستقبله مرتبط بها، لا بشعارات عابرة أو هويّات متخيّلة، هي دولة أقلّ قابلية للاختراق. هنا لا نتحدث عن الأمن بمعناه البوليسي الضيق، بل عن الأمن الاجتماعي الواسع، تعليم حديث لا يبيع أوهام الماضي، ولا يَعِد بعودة عصر ذهبي متخيَّل، واقتصاد يفتح آفاقاً حقيقية للشباب، وعدالة إجرائية يشعر بها المواطن والمقيم على حد سواء، بالأمن القانوني. المجتمعات الفرعية المنغلقة أو المهمَّشة هي الوقود المفضّل لكل المشاريع الإقليمية العابرة للحدود، وهي الحلقة الأضعف التي تُستهدف دائماً عند اشتداد الصراع. قد تتعرض دول الخليج، بشكل مباشر أو غير مباشر، إلى شيء من "الابتزاز السياسي والاقتصادي"، تحت عناوين إنسانية أو استقرار إقليمي، للمساهمة في إعمار ما خلفته الحروب البينية أو الأهلية في محيطها. هذا الضغط المالي المحتمل، إذا لم يُدَر بحكمة، فقد يفرض تراجعاً تدريجياً لما عُرف تاريخياً بـ"دولة الرفاه"، بما تحمله من التزامات اجتماعية واسعة؛ وهو تراجع لا يخلو من نتائج حساسة على النسيج الاجتماعي المحلي، وعلى العلاقة بين الدولة والمجتمع، إذا لم يُقابل بإصلاحات شفّافة وعادلة في توزيع الأعباء، وبخطاب صريح يشرح للمجتمع طبيعة التحوّلات بدل تركها مجالاً للإشاعات والقلق. من هنا يبرز التحول الضروري من مفهوم "دولة الرفاه"، بمعناه الريعي التقليدي، إلى مفهوم "دولة الشراكة" بين الدولة والمجتمع؛ فاستدامة الاستقرار في ظلّ موارد أكثر تقلّباً تقتضي إعادة تعريف العلاقة الاقتصادية والاجتماعية: دولة تضمن الحدّ الأدنى من العدالة والحماية، ومجتمع يشارك بفاعلية في الإنتاج وتحمّل المسؤولية. هذا التحول لا يعني التخلّي عن المكتسبات الاجتماعية، بل صيانتها عبر عقلنة الدعم، وتوجيهه إلى مستحقيه، وتوسيع قاعدة المشاركة الاقتصادية. والنجاح في هذا المسار كفيل بتخفيف الضغط عن المالية العامة، وفي الوقت ذاته بتقوية النسيج الاجتماعي، بدل إضعافه، إذا اتّسم بوضوح وتدرّج وعدالة. من ناحية أخرى، ثمة ضرورة لإدارة الجغرافيا السياسية بعقل بارد. الخليج محكوم بجوار مضطرب، وهذه حقيقة لا يمكن تغييرها. لكن يمكن إدارة آثارها وتقليل كلفتها. ليس كلّ صراع يستدعي الانخراط فيه وصرف الأموال، وليس كلّ استفزاز يستوجب رداً متعجّلاً. الأناة هي المطلوبة، خاصة في البحث الجدي عن استجابة جماعية. التجربة الخليجية في السنوات الأخيرة أظهرت أن تقليص منسوب المغامرة، وتجنب الانزلاق إلى حروب مفتوحة أو صراعات بالوكالة، كان خياراً أكثر حكمة وأقل كلفة، سواء على المستوى السياسي أم الاقتصادي أم الاجتماعي. فالحروب في الإقليم أثبتت أن بداياتها دائماً أسهل من نهاياتها. مدخل آخر هو تحويل القوة الناعمة إلى خط دفاع أول؛ ففي عالم اليوم، لم تعد الجيوش وحدها تصنع النفوذ، أو تحمي الاستقرار، بل النفوذ يُبنى بالاستثمار الفطن، وبالديبلوماسية النشطة، وبالقدرة على لعب دور الوسيط، لا بأن نكون طرفاً في الصراع، وبالمساهمة في التنمية بدل تغذية الانقسام. دول الخليج التي استثمرت في التعليم، والإعلام، والديبلوماسية الاقتصادية، والعمل الإنساني المنظّم، اكتشفت أن هذه الأدوات أقلّ ضجيجاً، لكنها أكثر أثراً واستدامة في حماية مصالحها. أما التحوّط الاقتصادي فيجب أن يتخذ بجدية لا كشعار. احتمال انخفاض أسعار النفط لم يعد سيناريو نظرياً، أو بعيد المدى، كذلك التحولات في أسواق الطاقة، والتقدم التكنولوجي، والضغوط البيئية، كلها عوامل تجعل من تنويع الاقتصاد مسألة أمن وطني جماعي، لا مجرد بند في خطط التنمية. الدولة التي تعتمد ميزانيتها بشكل مفرط على مورد واحد تضع استقرارها الاجتماعي تحت رحمة تقلبات لا تتحكم بها. أخيراً، إدارة العلاقة مع القوى الكبرى ببراغماتية واعية: فالعالم يتغير بسرعة، والتحالفات لم تعد صلبة كما كانت في السابق. الولايات المتحدة أقل استعداداً لتحمل كلفة الأمن وحدها، وأوروبا منشغلة بتحدياتها الداخلية والحرب في أطرافها، بينما تحضر الصين وروسيا بأجندات مختلفة. الحفاظ على الاستقرار الخليجي يتطلب شبكة علاقات متوازنة، لا ارتهاناً لطرف واحد، ولا عداءً مجانياً مع أطراف أخرى، بل تعدداً في الشراكات، يحمي المصالح ويمنح هامش حركة أوسع. الرهان على الزمن لا على الصدفة: فالمشاريع الإقليمية المتطرفة، سواء لبست عباءة أيديولوجية أو أمنية، فإنها تحترق - في أغلب الأحيان - مع الوقت، لأنها تعتمد على الصراخ الإيديولوجي. أما الدول التي تستثمر في الإنسان، وفي بناء مؤسسات مرنة، وقابلة للتكيّف، فهي التي تبقى. الخليج ليس جزيرة معزولة عن الحرائق من حوله، لكنّه يستطيع أن يبقى واحة، إذا فهم أن الاستقرار ليس حالة سكون، بل عملية مستمرّة من المراجعة والتكيّف، وأن الحكمة في زمن الرياح المتقلبة هي أن تُشدّ الأشرعة بعقل، لا أن تُكسر السفينة في مواجهة العاصفة.
- آخر تحديث :















التعليقات