لم يكن احتفاء موريتانيا هذا العام بإحدى مدنها التاريخية مناسبةً ثقافيةً عابرةً، بل حمل دلالات أعمق كشفت عن تحوّل في طريقة مقاربة الدولة لذاكرتها، وللأسئلة المرتبطة بالتماسك الاجتماعي والوحدة الوطنية. فمن شنقيط، التي حملت البلاد اسمها إلى المشرق العربي، مروراً بولاتة وتيشيت، وصولاً إلى وادان، تشكّلت هوية موريتانيا في فضاء صحراوي جمع بين العلم والتجارة والروحانيات، وصاغ نموذجاً فريداً للتعايش والتفاعل بين مكوناته الداخلية ومع الجوار.

تخصيص دورة هذا العام لمدينة وادان لم يكن اعتباطياً، فالمدينة التي يُقال إنها ربيبة فزان في الصحراء الليبية، والتي كانت واحة علم وتمر، شكّلت المحطة الأخيرة في الطريق الصحراوي العظيم الذي ربط مدن الصحراء الكبرى، وأسّس لواحد من أقدم مسارات التبادل التجاري والعلمي في أفريقيا. ومع تحوّل طرق التجارة نحو المحيط الأطلسي، دخلت هذه المدن في عزلة طويلة، لم تكسرها سوى مناسبات دورية تعيد التذكير بمكانتها، من دون أن تُخرجها بالكامل من الهامش التنموي.

ومع تراكم دوراته، لم يعد مهرجان «مدائن التراث» مجرّد احتفال بالذاكرة، بل تحوّل إلى أداة ذات بعد اجتماعي واقتصادي. فقد أسهم في تنشيط سياحة داخلية محدودة لكنها مؤثرة، ووفّرَ مورداً إضافياً لساكنة مدن ظلَّت خارج مسارات النمو، كما أعادت الاعتبار للشعر وللفنون بوصفها روافدَ حيَّةً للهوية الوطنية، لا مجرد تعبيرات فولكلورية موسمية.

الجديد هذا العام تمثّل في الخطاب السياسي الذي اختار الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني أن يمرّره من بوابة الثقافة، فالرئيس لم يكتفِ بالحديث عن التراث باعتباره عنصر جذب سياحي أو ذاكرة تاريخية، بل وسّع المقاربة لتشمل سؤال الوحدة الوطنية، مؤكداً أن التنوع الاجتماعي والثقافي الذي يميّز موريتانيا يشكّل مصدرَ قوة، لا عامل انقسام.

وفي هذا السياق، شدّد الغزواني على رفض كل أشكال الخطاب التي تقوم على الشرائحية، أو توظيف الانتماءات الاجتماعية والعرقية في المجال السياسي، معتبراً أن مثل هذه المقاربات تُضعف الدولة وتُربك السلم الأهلي. وأكَّد أنَّ المواطنة تبقى الإطار الجامع والوحيد للحقوق والواجبات، وأنَّ حماية التماسك الوطني مسؤولية مشتركة تشمل الدولة والنخب السياسية والثقافية والمجتمعية على حد سواء.

ويكتسب هذا الخطاب دلالته الكاملة حين يُقرأ بوصفه جزءاً من رؤية أشمل، تسعى إلى ترسيخ الوحدة الوطنية عبر مقاربة متوازنة تجمع بين الذاكرة والتنمية، فالدعوة إلى تجاوز الشرائحية لا تنفصل عن توجُّهٍ رسميّ يضع تقليص الفوارق المجالية، وتعزيز العدالة الاجتماعية، وإعادة دمج المناطق التاريخية في الدورة الاقتصادية الوطنية، ضمن أولوياته وفي صلب السياسات العمومية. من هذا المنظور، تبدو المدن التاريخية، في مقدمتها وادان، ليس فقط رموزاً للماضي، بل فضاءات مرشحة للاضطلاع بدور فعلي في بناء تماسك وطني مستدام، يقوم على المواطنة والتنمية المتوازنة بدل الانتماءات الضيقة.

ولا يمكن فصل هذا التوجه عن محيط إقليمي مضطرب، شهدت فيه دول أفريقية عديدة انزلاق الهويات الفرعية إلى أزمات سياسية وأمنية حادة، حين فشلت في إدارة تنوعها الاجتماعي والثقافي. في هذا السياق، يبرز الخطاب الموريتاني الرسمي بوصفه محاولة لتفادي هذا المسار، عبر تثبيت سردية وطنية جامعة تُقرّ بالتعدد ضمن الوحدة العضوية، وترفض في الوقت نفسه تحويل هذا التعدد والتنوع الثقافي والاجتماعي إلى أداة صراع سياسي أو تعبئة.

لذلك يعيد هذا الخطاب تعريف دور المدن التاريخية نفسها. فهي لم تعد مجرد أطلال جميلة، أو مخازن لمخطوطات نادرة، بل صارت رموزاً لمرحلة تشكّلت فيها موريتانيا فضاء تلاقٍ بين العرب والأفارقة، وبين الصحراء والساحل، وبين العلم والتجارة. استدعاء هذه الرمزية اليوم هو، في جوهره، استثمار في ذاكرة جامعة تُستخدم لتثبيت الحاضر، لا للهروب منه.

وفي المحصّلة، حملت دورة وادان من مهرجان «مدائن التراث» رسالةً تتجاوز الاحتفاء بالماضي، لتلامس رهانات الحاضر واستحقاقات المستقبل. وبين استعادة المدائن التي صنعت تاريخ وهوية موريتانيا، والتأكيد على وحدة مجتمعها، بدا أنَّ الدولة بدورها تسعى إلى إعادة وصل التاريخ بالتنمية، والذاكرة بالمواطنة، في مقاربة هادئة، لكنَّها واضحة المعالم، في زمن إقليمي يتجنَّب التشكيك في اللحمة الوطنية، ولا يحتمل كثيراً من الهشاشة.