حين ظهرت بوادر الحركة الإصلاحية في أوروبا وسعى عدد من المفكرين والفلاسفة في عصر النهضة لإخراج السلطة من يد الكنيسة ثم فصل الدين عن الدولة، أدركوا ما للدين من تأثير قوي على نفسية الفرد وكونه سلاحا فعالا في المواجهات والصراعات على السلطة.ولذلك إستغلوا أخطاء السلطة الكنسية الديكتاتورية للترويج لمعتقداتهم، خاصة الخطيئة الكبرى للكنيسة بتأسيس محاكم التفتيش وملاحقة المفكرين وقتلهم.وخاضوا صراعا فكريا ضد الكنيسة خاصة فيما عرف بأضحوكة " صكوك الغفران". ورويدا رويدا وبعد أن قدموا تضحيات كبيرة في ذلك الصراع نجحوا في إنتزاع السلطة من الكنيسة وإبعادها عن الحياة السياسية، وبذلك ظهرت الثورة الصناعية التي غيرت وجه العالم وتحقق التقدم والرقي داخل المجتمعات الأوروبية.
هذه السلطة الدينية ظلت باقية الى بدايات القرن الماضي عبر الخلافة ثم السلطنة العثمانية التي نجح مصطفى كمال أتاتورك في الإطاحة بها وتأسيس حكم علماني في تركيا بديلا عن الخلافة الدينية.وتبع ذلك ظهور العديد من الدول الإسلامية غير الدينية في المنطقة،ونالت الشعوب الواحدة تلو الأخرى إستقلالها السياسي وأنشأت دولها المستقلة خارج إطار الحكم الديني.وأصبح الإسلام الى حين منزويا في المساجد مثل المسيحية في كنائس أوروبا، وتركت السياسة للسياسيين،وشهدت المجتمعات العربية شيئا فشيئا بعض مظاهر التقدم الإجتماعي عبر نشوء برلمانات وحكومات غير الدينية.ولكن الأمر لم يدم طويلا حتى لاحت مرة أخرى بوادر ظهور حركات دينية تهدف للوصول الى السلطة والإطاحة بالحكم العلماني تحت شعار العودة الى الإسلام وأن"الإسلام هو الحل"..
مع إبتداء حقبة السبعينات أطلت الحركات الإسلامية برأسها مرة أخرى في المنطقة وسميت بحركة النهضة الإسلامية. وكانت الدعوة في بدايتها محصورة داخل بعض المساجد يروج لها الدعاة وينشرونها عبر أشرطة الكاسيت كخطب سيد قطب.ولزمت السلطات السياسية جانب الصمت ما شجع الدعاة الى الظهور العلني داخل المجتمع.ونتيجة لتلك النهضة الإسلامية ظهرت جماعات إسلامية متطرفة إستغلت الدين لمحاربة السلطات، وكانت البداية مع جماعة التكفير والهجرة ثم تلتها منظمة القاعدة وأخيرا تنظيم داعش الإرهابي الذي فاقت جرائمه جرائم محاكم التفتيش الأوروبية في تطرفها ووحشيتها..
في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين ظهر عدد محدود جدا من دعاة فكر التجديد بالخطاب الديني.ويقف على رأس هؤلاء جمال الدين الأفغاني ثم الإمام محمد عبده. وتلاهما شخصيات دينية وفكرية عديدة من أمثال على عبدالرازق وطه حسين وغيرهما من رجال الفكر العربي، كان يفترض بحكومات تلك الفترة أن تشجع هذا التوجه الفكري نحو التجديد،لكي تكون هناك حركة فكرية موازية لحركة الفلاسفة والمفكرين الأوروبيين في مواجهة فكر التطرف الديني الذي أنتج فيما بعد الفكر الإرهابي.ولكن للأسف وجدنا بأن معظم الحكومات والأنظمة العربية والإسلامية تلكأت في ذلك متيحة الفرصة لنمو هذا الفكر الديني المتطرف والقضاء التام على الحركة التجديدية،ما أعطى لاحقا فرصة ثمينة لظهور أحزاب وحركات سياسية تتستر وراء الدين وتسعى للإنقلاب على السلطة،من أبرزهم حركة الإخوان المسلمين التي ظهرت تحت عباءته جميع المنظمات والتنظيمات الإسلامية المتطرفة المنتشرة اليوم في أرجاء الدول الإسلامية. والى جانب إنتشار الأحزاب الإسلامية في العديد من الدول العربية، ظهرت طبقة جديدة من دعاة الفكر المتشدد تستغل شاشات التفزيونات والقنوات الفضائية لإختراق المجتمعات. وبذلك إستطاع الفكر المتطرف أن يتغلغل في بيت كل مسلم بالدول العربية والإسلامية وأن يروج للفكر الديني المتشدد. ويبدو أن بعض الحكومات والأنظمة الديكتاتورية قد ركبت الموجة وسعت لإستغلال إنتشار هذه الدعوات في سبيل مصالحها وتجنيد بعض الدعاة المسموعين الى جانب سلطتها القمعية والديكتاتورية.لذلك ليس غريبا أن تظهر هذه الطبقة من الدعاة على مدار الساعة في شاشات القنوات الإعلامية تروج لأفكارها المتشددة وتسعى لإعادة المجتمع الى زمن السلف والى حقبة التداوي ببول البعير وإرضاع الكبير!.
منذ فترة وأنا أتابع على" اليوتيوب" العديد من مناظرات ومحاضرات بعض أعلام الفكر الديني المتجدد، وهناك عدد من المفكرين الإسلاميين المتجددين يسعون لتخليص الدين من الشوائب التي أحدثها دعاة الفكر السلفي المتطرف، وأخص منهم بالذكر المفكر الإسلامي الكبير الدكتور محمد شحرور الذي أحدث برأيي ثورة فكرية حقيقية من خلال قراءته المعاصرة للقرآن، وتفسير آياته بمنطق عقلي سليم. ويستحق هذا المفكر الكبير أن تدرس أفكاره وطروحاته الفكرية على أعلى المستويات الأكاديمية لكي تكون نبراسا لأبناء هذا الجيل الحائر بين التقدم الإجتماعي السريع، وبين دعوات التقهقر الفكري السلفي. فهذا المفكر له باع طويل في فهم القرآن وتصحيح معانيه ومبانيه يصلح لإعتماد تفسير معاصر وجديد للقرآن بما ييسر الحياة للفرد في المجتمع الإسلامي ،وأن يعيش حياته بفكر متفتح وليس بإغلاق باب الإجتهاد والإلتزام بما ورد عن السلف.
إن المفسرين من أمثال الطبري وإبن كثير وجلال الدين السيوطي والقرطبي والثعالبي والزمخشري وغيرهم كانوا رجالا مثلهم مثل الدكتور محمد شحرور، وإعتمدت تفاسيرهم منهاجا للمسلمين على مر التاريخ،وحاولوا أن يفسروا آيات القرآن بالأدوات المتوفرة لديهم وبما يمتلكون من ثقافة دينية ساعدتهم على فهم آيات القرآن وفقا للعصر السائد في وقتهم، ولا نستطيع الحكم عليهم أو على دقة تفاسبيرهم وكيف فهموا الآياتـ لكننا متيقنون تماما بأنهم لم يكونوا يمتلكون من الأدوات ما لدى رجال الفكر المعاصرون من أمثال الدكتور شحرور، لذلك إذا نشر الدكتور شحرور تفسيره المعاصر للقرآن وأعتمد مثل بقية التفاسير كمصدر معتبر لفهم القرآن سيكون بذلك قد قدم خدمة كبيرة لا نظير لها للإسلام،ونجح ولو الى حد ما في تغيير نظرة المسلم الى دينه، ولساعد ذلك الحكومات الحالية لمحاربة الفكر الديني المتطرف الذي بات يشوه الإسلام ويقدمه كدين إرهابي أمام المجتمعات الغربية.
نحن في هذه المرحلة نحتاج فعلا الى ثورة تجديدية لإنقاذ الإسلام من الفكر المتطرف، فبحسب تفسيرات الدكتور شحرور وبعض رفاقه من المفكرين ورجال الدين المجددين،ليس الإسلام ما يعرض حاليا على المجتمعات،فهناك فهم خاطيء لآيات القرآن وأحاديث الرسول درجنا عليه منذ قرون طويلة ينبغي أن تصحح تلك المفاهيم ويطهر الدين من الشوائب التي تعلقت به، ولذلك نحن بأمس الحاجة اليوم قبل الغد الى تنظيف الدين من الفكر المتطرف الموروث، عبر قراءة جديدة للقرآن والسنة النبوية، ليعود الإسلام الحقيقي كدين للرحمة والمساواة ودين مدافع عن حقوق الإنسان، وليس دين داعش الإرهابي المتطرف القائم على القتل والسبي وتدميرمجتمعات الإسلام وخراب مدنهم وبلدانهم..
التعليقات