وقف شعر رأسي الليفي الأشيب من هول ما قرأت، فقد توفي المئات وربما الآلاف في النيجر من قبل بسبب التهاب السحايا رغم أنهم خضعوا للتطعيم ضد المرض، لتكتشف المختبرات أخيرا أن المصل المستعمل في التطعيم كان مغشوشا !!
مصيبة تضاف لمصائب البشر، فحين تغمر أمواج الغش صناعة الدواء، يصبح ما نشتريه من الصيدليات عديم الفائدة إن لم يكن سمّا زعافا نقتنيه من حر مالنا !
الغش أصبح يتربص بنا في كل ركن، فقطع الغيار مغشوشة، والصناعات مغشوشة، والذهب مغشوش، والأدوات الكهربائية مغشوشة، والهواتف النقالة مغشوشة، والساعات مغشوشة، والبطاريات مغشوشة، والأغذية مغشوشة !
حتى العملات النقدية، وخصوصا الورقية، باتت مجالا رحبا للتزييف والغش، وكم هو أليم للنفس أن يقع الإنسان ضحية هذا النوع وغيره منأنواع الخداع والاحتيال !
من سوء حظ الأجيال الحالية وربما القادمة .. أن أدوات الغش ووسائله باتت أكثر قدرة على اقتحامنا، وأحسب أن أكبر كم من الأكاذيب والافتراءات في تاريخ البشرية أتى بعد الانفجار الإعلامي وبروز ما اصطلح على تسميته بالإعلام الجديد .
نعم .. الإعلام التقليدي يلوّح مودعا، فحقبته في تاريخ البشر شارفت على الانتهاء، ويحس الكثيرون، وصويحبكم منهم، بغصة في الحلق لهذا الرحيل .. فقد اعتدنا التعامل معه، وعرفنا طرائقه وأساليبه ومواقع قوته، ومسالكه الآمنة والملغومة !
لكن دعونا نكون منصفين، فالإعلام التقليدي لم يكن ـ كما ظللنا ندّعي ـ رمزا للطهر والصدق . صحيح أنه كان أقرب للموثوقية في الأشياء الصغيرة، لكنه كان (كارثة) في المحطات المصيرية . وكثيرا ما سقط في حبائل الأنظمةالحاكمة، أو مراكزالقوى، ليصبح مطية لها .. تركبه وتركب من خلاله على ظهر الشعوب .. لتعتمر (الحقيقة) قلنسوات شتى، وتتحول المعلومات الصحيحة إلى معلومات مضللة، وليتحول الكثير من القادة والأنظمة والمراكز إلىأصنام يسبّح الإعلام بحمدها ليلَ نهار !
الفرق الذي حدث مؤخرا .. أن الكذب والتضليل والغش لم تعد ممارسة محتكرة للبؤر الإعلامية التقليدية، بل انتشرت كفيروس شديد العدوى في بيئات الوسائط الإعلامية المستجدة، ليختلط الحابل بالنابل، وتمتزج الحقائق بالأكاذيب من كل شاكلة ونوع !
ومن الأعاجيب أن هناك غشا مقبولا وغشا مرفوضا، وفقا للأهواء والأمزجة . فالغش في تمجيد التاريخ لبعض من مروا عليه يجد الاحتفاء ممن تربطهم الصلة والمصالح والتوافق بأولئك، فيصبح ما يدعيه كتّاب التاريخ المزوّر حقائق لا تقبل الجدال، في حين تبقى الروايات الأخرى لنفس التاريخ، والتي يتبناها من ليسوا على مسار أولئك .. نقيضا كاملا لما يتم روايته، وهكذا نجد (البطل) عند قوم .. هو نفسه (الباطل) عند مناوئيهم، والخطأ عند قوم هو الصواب عند من ينازعونهم !!
إن البشرية ستظل أسيرة للغش والتزوير والتشويش ما بقيت الحياة على وجه الأرض، فليس من علاج حاسم باتر لما ينتشر من تحايل وتغرير سواء في السلع أو الخدمات أو التاريخ أو المعلومات .. وليس من المستبعد أن تكون الكثير من الحقائق التي نتعامل معها حاليا كبدهيات .. هي أكاذيب كبرى اتسمت بالعبقرية والخيال .. لتظل قوية راسخة ونامية على مر السنوات دون أن يصيبها البلى .
ولعلي أزعم أن أهم طرائق التقليل من أحابيل الأكاذيب هو الوعي، فالزمان لا يتحمل الاكتفاء بوجه واحد مما يروج من معلومات، فلا بد من النبش في الوجوه الأخرى للصورة فربما كان الصواب قابعا هناك .
أخيرا تستحضرني طرفة وجدت طريقها عبر النيوميديا، وهي أن رجلا خطب فتاة وتزوجها لمظهرها وحسن مكياجها، لكنه اكتشف بعد وقوع الفأس في الرأس بأن المكياج كان وسيلة خداع، حيث كان الجمال أبعد منها بُعد الثريا عن الأرض، .. فأنشد يقول : (بالمكياج مثل البدر تبدو .. فإن نزعته صارت "عم عبدو") !
التعليقات