لكل من تعرفوا على الراحل الكبير العفيف الأخضر، يبدو شقيقه المحامي البشير الأخضرالذي شغل لفترة طويلة خطة قاض، ورئيس محكمة، شبيهابه إلى حدّ كبير في ملامح الوجه، وفي نبرة الصوت، وفي الحركات، والطريقة في الحديث والسير. فلكأنه توأمه. ومثله هو يحرص حرصا شديدا على المحافظة على صحته، وعلى العناية بها بشكل مبالغ فيه أحيانا. لذلك يتجنب أكل اللحوم،و والمواد الدسمة، وشرب الكحول، والتدخين، ولا يرتاح ويطمئن إلاّ عندما تكون على مائدته أطباق بيولوجية. ومرات عديدة رافقته إلى مطاعم في العاصمة، وفي الحمامات، وفي مدينة الكاف الشمالية على الحدود مع الجزائر، لأراه يحمل معه خبز الشعير، وربما زجاجة صغيرة من زيت الزيتون الرفيع. بل قد يحمل معه أيضا طماطم وفلفلا لكي يعدّ له صاحب المطعم الذي يقصده ّسلاطة مشوية" على الطريقة التونسية الأصيلة. وللأستاذ البشير الأخضر ذاكرة فيل تماما مثلما هو حال شقيقه الراحل. لذا بإمكانه أن يحدثك على مدى ساعات طويلة من دون أن يصيبك المل عن سنوات طفولته الشقية، وعن سنوات الدراسة في جامع الزيتونة في الخمسينات من القرن الماضي،وعن الشيوخ الأفاضل الذين رعوا تكوينه ودراسته.وبدقة يجعلك تعيش من جديد أحداثا سياسية بعيدة ربما لم تعشها مثل الصراع بين الزعيمين الحبيب بورقيبة، وصالح بن يوسف، وسقوط النظام الملكي عام 1957،وفترة التعاضد الإشتراكية التي كان مهندسها أحمد بن صالح، والسنوات الأخيرة من حكم بورقيبة،إلى غير ذلك من الأحداث الكبيرة والصغيرة. وفي حديثه يظل دائما هادئا رصينا، فلا تظهر عليه أي علامة من علامات الإنفعال أو التشنج.
وخلال السنوات الماضية،دأب الأستاذ البشير الأخضر على تنظيم وحضور كل الندوات والملتقيات التي خصصت لمسيرة شقيقه العفيف الأخضر الذي لم يتعرف عليه التونسيون إلاّ في السنوات الأخيرة من حياته. وكان الراحل شديد التعلق به أيضا.فمعا تقاسما طفولة تعسة، وتجرّعا عذاب سنوات الدراسة في العاصمة، ومعا واجها مختلف مصاعب الحياة. وكل واحد منهما عاش موت الوالد وهما لا يزالان طفلين كفاجعة، وكجرح مؤلم ظل ينزف على مدى سنوات طويلة. وعندما قرر العفبف الهجرة في مطلع الستينات من القرن الماضي، لم يعترض شقيقه الذي يصغره بسنتين وبضعة أشهر على ذلك، بل رافقه إلى المطار وفي القلب لوعة، وفي الصدر زفرات، وفي العين دمعة. وعلى مدى سنوات الهجرة الطويلة، ظل البشير على اتصال دائم بشقيقه الذي كان كثير التنقل بين مختلف البلدان العربية والاوروبية قبل أن يستقر نهائيا في باريس لينصرف للتأليف،منقطعا عن ممارسة أيّ نشاط سياسي فعليّ. وعندما عاد العفيف إلى تونس في أول الثمانينات، وجد في بيت أخيه البشير من العطف والحنان والمحبة ما خفف عنه أوجاع الفراق،وآلامه،وجراحه. ويقول الأستاذ البشير الأخضر أن العفيف الذي ظل أعزب طوال حياته، كان يعامل أولاده وبناته كما لو أنهم من صلبه. وأبدا لم يبخل عليهم بالنصيحة والإرشاد والتوجيه سواء في دراستهم،أم في حياتهم. فكان خير العم،وخير النصوح،وخير المرشد. ولما أصاب العفيف ذلك المرض الخبيث الذي قتله في السابع والعشرين من شهر يوليو-تموز 2013، توالت زيارات شقيقه البشير إلى العاصمة الفرنسية ليكون إلى جانبه كما كان دائما وأبدا. و على مدى أشهر طويلة، ظلت إبنته الطبيبة تعنى به في الليل كما في النهار. ويقول الأستاذ البشير إنه زار شقيقه في المستشفى يوم 25 يوليو-تموز من العام المذكور،وظل إلى جانبه حتى ساعة متأخرة.ولما عاد صبيحة اليوم التالي، كان الموت قد غيّبه. وقد رثاه قائلا:”كان الأب والشقيق والصديق،دائم الإهتمام حتى عن بعد بكلّ صغيرة وكبيرة في حياتنا-في كلمة كنّا روحا واحدة في جسدين".

ولد العفيف الأخضر في سنة1934،وهي نفس السنة التي ولدت فيها نجمتا السينما العالمية الفرنسية بريجيت باردو، والإيطالية كلاوديا كادينالي. وكان مولد هذه الأخيرة في "حلق الوادي"،إحدى الضواحي الشمالية للعاصمة التونسية. و في سنوات شيخوختها، أصدرت كلاوديا كاردينالي كتابا تحتفي فيه بتونس”موطنها الروحي" بحسب تعبيرها.وفي مكتبة"الكتاب" بجادة الحبيب بورقيبة،أو "باب البحر"كما يسميه التونسيون،جاءت لتوقيع كتابها بحضور عدد غفير من المعجبين والمعجبات. وفي السنة المذكورة، عاشت تونس أحداثا ثقافية وسياسية هامة ستظل حاضرة في ذاكرة التونسيين.،وفي ذاكرة العفيف الأخضر،وستكون مادة للعديد من أبحاثه النقدية والفكرية. ففي الثاني من شهر من مارس-آذار،قام الشاب الحبيب بورقيبة الذي عاد من فرنسا عام 1927 بشهادة المحاماة بحركة إنشقاقية داخل الحزب الدستور الذي إنبعث للوجود عام 1919، ليؤسس ما أصبح بسمى ب"الحزب الحر الدستوري التونسي". فعل ذلك في غياب مؤسس الحزب القديم الشيخ عبد العزيز الثعالبي الذي كان آنذاك يطوف في بلدان المشرق العربي، وفي البلدان الآسيوية المسلمة حالما ببعث وحدة للعالم الإسلامي. وفي سنوات شبابه،تحمس العفيف الأخضر للنضال الوطني بقيادة الحزب الحر الدستوري، جاعلا من زعيمه الحبيب بورقيبة، رمزا من رموزه السياسية. وفي حوار أجراه معه الشاعر العراقي عبد القادر الجنابي، قال العفيف الأخضر:”في 1954، تماهيت ببورقيبة فاندفعت بحماس،بل ربما بتعصب أدافع عن خطه السياسي.وعندما أصدر غداة الإستقلال،1956، قوانين الأحوال الشخصية لتحرير المرأة التونسية من قصورها الأبدي،ردّ عليه شيوخ وخريجو الزيتونية بتكفيره، تحمست أنا لها إلى درجة أنني في محافظتي النائية والمتأخرة جدا ثقافيا واقتصاديا وفكريا،كنت أخرج مع خليّة حزب الدستور، حزب بورقيبة، إلى القرى والدواوير لأفسر لهم مزايا هذه القوانين الجديدة وعدم مجافاتها لروح الإسلام. كان ذلك خلال فترة الإجازة المدرسية،وكان لذلك صدى طيبا. وفي الوقت ذاته، وعيت خطورة التعليم الديني العتيق فكتبت مقالات في جريدة"العمل" في صفحة الشباب مطالبا بغلق جامع الزيتونة ودمج التعليم الزيتوني العتيق في التعليم الحديث الذي ورثته تونس المستقلة عن فرنسا.وفعلا بعد بضعة شهور، أصدر بورقيببة قرارا بتوحيد التعليم وغلق جامع الزيتونة.لكن شيوخ الزيتونة الذين لم يصلوا إلى سن التقاعد،وكذلك خريجوها الشباب تمّ إلحاقهم بالمدارس الحديثة كمدرسين لتعليم الدين وعلوم القرآن. فكانت النتيجة كارثية لأنهم دَرّسُوا المناهج الجديدة بعقليتهم وبضاعتهم الفقهيّة العتيقة. وهكذا غدت المدرسة التونسية التي كانت نسخة طبق الأصل من المدرسة الفرنسية،بسببهم، مدرسة تقليدية وسلفية هي التي أنجبت معظم قادة وكوادر ومناضلي وجمهور الحركة الأصولية التي نادت بإعادة فتح الزيتونة والتراجع عن قوانين الأحوال الشخصية".
وفي التاسع من شهر أكتوبر من السنة المذكورة، توفي الشاعر أبو القاسم الشابي وهو في الخامسة والعشرين من عمره بعد صراع مرير مع مرض القلب الذي أصيب به مبكرا. ورغم أنه تمكن من أن يفرض وجوده كرمز من رموز جيل"إرادة الحياة" الذي لعب دورا رياديا في تحديث الثقافة التونسية، وكشاعر مجدد خصوصا بعد أن نشر قصائده في مجلة"أبولو" المصرية،وأصدر كتابه النقدي الجريء "الخيال الشعري عند العرب"، فإن رحيله لم يشكل فاجعة إلاّ لنفر قليل من أصدقائه الذين كانوا واثقين من موهبته العالية. لذلك لن يكتشف التونسيون شاعرهم الكبير إلاّ بعد وفاته بحوالي عشرين عاما،أي بعد أن أحرزت تونس على استقلالها عام 1956. لكن العفيف الأخضر كان قد اكتشفه في سنوات شبابه الأولى ليكون رمزا من رموزه الثقافية المنتصرة للتحديث وللفكر الحر. وبعد عام وحوالي شهرين، وتحديدا في السابع من شهر ديسمبر 1935، التحق بالشابي في العالم الآخر المفكر الإجتماعي الطاهر الحداد صاحب كتاب "إمرأتنا في الشريعة والمجتمع" الذي أثار حفيظة وغضب شيوخ جامع الزيتونة،والأوساط السلفية والرجعية فكفروه،وحرضوا عليه العامة للإعتداء عليه في الشارع مجبرين إيّاه على العيش متخفيا عن الأنظار ليموت كمدا فلم يسرْ في جازته سوى البعض من أصدقائه. وكان الشابي قد ناصر الحداد في محنته،معتبرا إ ياه واحدا من رموز جيل "إرادة الحياة". وفي ما بعد سيشيد العفيف الأخضر بالطاهر الحداد، وسيقتدي به ليجعل من حرية المرأة ركنا أساسيا في مسيرة التحرر التي تطمح إليها المجتمعات العربية والإسلامية.
وفي السنة المذكورة أيضا، عاش العالم أحداثا كبيرة على المستوى السياسي والإجتماعي. ففي أوروبا بدأ تظهر العيان تلك العوامل التي ستؤدي في نهاية الثلاثينات إلى إنفجار الحرب الكونية الثانية. من ذلك مثلا أن النازيين بزعامة أدولف هيتلر تمكنوا من إحكام قبضتهم على ألمانيا ليشرعوا في نشر إيديولجيتهم العنصرية.وبتحريض منهم تّم قتل ما يقارب 1000 من اليهود في الليلة الشهيرة التي سميب ب"ليلة السكاكين الطويلة". وبسبب موجات القمع والملاحقات الرهيبة، أجبر المعارضون للنازيين من أهل السياسة والفكر على الهروب إلى المنافي. وكان توماس مان الحائز على جائزة نوبل للآدابـ عام 1929، وشقيقه الكاتب هاينريش مان، والشاعر والمسرحي برتولد برخت، والفيلسوفة هانا آراندت، والمفكر فالتر بنيامين،والروائي ألفريد دوبلن صاحب رائعة"برلين، ألكسندر بلاتز"،وكورت توخولسكي،وآخرون كثيرون من بين هؤلاء. أما هايدغر والشاعر المرموق غوتفريد بنْ فقد فضّلا البقاء في ألمانيا،مظهرين نوعا من التعاطف تجاه النظام النازي. وعاشت فرنسا في السنة المذكورة مواجهة دموية بين التيارات اليمينية والبسارية ذهب ضحيتها 15،وأصيب 2000 بجراح. وكانت الحركة السوريالية التي إنبعثت في أول العشرينات في أوج قوتها وإشعاعها. وكان البيان السوريالي الذي صدر عام 1924، ثم اعيد نشره عام 1929، ثم في عام 1930، يحظى بأهمية كبيرة في المشهد الثقافي الفرنسي الذي شهد في العقد الأول من الثلاثينات، بروز كتاب من طراز جديد أحدثوا "ثورة" في مجال النثر،كما في مجال الشعر والنقد،والفكر الفلسفي والإجتماعي. ففي عام 1933ـ توّج أندريه مالرو الذي طاف طويلا في الهند الصينية بجائزة "غونكور" المرموقة بفضل روايته "الوضع الإنساني" التي رسم فيها صور آسرة لنضال الشيوعيين الصينيين في العشرينات من القرن الماضي، ناقلا بذلك الرواية الفرنسية إلى فضاء غريب وبعيد لم تكن قد عرفته حتى ذلك الحين. وفي ما بعد سيقاتل أندريه مالرو على جبهات متعددة مة أجل الحرية والعدالة،وسيكون إلى جانب الجمهوريين خلال الحرب الأهلية الإسبانية، وقائدا فذّا في حركة المقاومة الفرنسية المناهضة للإحتلال النازي.ومن تجاربه تلك، إستوحى مواضيع العديد من رواياته. وفي نفس الفترة، حقق لوي فارديناند سيلين نجاحا باهرا بفضل روايته "سفرة إلى آخر الليل" التي عكست المصير المفزع للبشرية في ظل الحضارة الغربية التي بسطت نفوذها المادي على جميع بلدان العالم. وفي الجزائر، كان شاب فرنسي من "السيقان السوداء" يدعى ألبير كامو يطوف في منطقة"القبايل" الجبلية ليتعرف على أحوال أهلها، وليكتب عنهم تحقيقات مثيرة للتنديد بالمظالم الإستعمارية المسلطة عليهم. وقبل أن ينتهي عقد الثلاثينات، أصدر كامو كتابين هما:" القفا والوجه"،و"أعراس".وفيهما هو يجعل من الجزائرّ موطنا روحيا"،وفيهما تحضر الطبيعة بجمالها المُتَقشّف، وبسكان البلد المحليين، وب"السيقان السوداء" الفقراء، لكنهم "سعداء تحت شمس المتوسط". وفي ما بعد ستكون الجزائر فضاء لروايات كامو الشهيرة: "الغريب"،و"الطاعون"،و"الإنسان الأول"،وأيضا لمجموعته القصصية:” المنفى والملكوت". وفي الولايات المتحدة الأمريكية، صدرت روايات من وحي الأزمة الإقتصادية التي ضربت الرأسمالية العالمية عام 1929. وفي طليعة هذه الروايات يمكن أن نذكر"عناقيد الغضب" لجون شتاينباك، و"مانهاتن ترنسفير" لجون دوس باسوس، و"طريق التبغ" لأرسكين كالدويل. وفي روسيا كان ستالين قد وَطّد سلطته بعد أن أزاح عدوّه اللّدود تروتسكي،وشرع يُعدّ نفسه لعمليات التصفية الدموية داخل الحزب الشيوعي البلشفي، مرسلا إلى سيبيريا مئات المعارضين له من أهل السياسة والثقافة والفكر. إلا
أن ذلك لم يمنع مفكرين وشعراء وكتاب من التعلق بالإشتراكية الماركسية باعتبارها الطريقة الأمثل للقضاء على الفوارق الطبقية، وضمان العدالة الإجتماعية للشعوب والمجتمعات. وحتى عندما إنتقد أندريه جيد البلشفية في كتابه"رحلة إلى الإتحاد السوفياتي" الصادر عام 1936، ظلت الشيوعية فاتنة ومغرية بالنسبة لهم. ولم يتردد شاعر كبير مثل أراغون في الإنفصال عن الحركة السوريالية ليصبح عضوا في الحزب الشيوغي الفرنسي،مُنوّها بأطروحات جدانوف حول "الواقعية الإشتراكية". بل أنه مدح"الرفيق ستالين". وفي ذلك كتب يقول:”أنا سعيد، وفرح بل أنا أحيا، وأنا أشعر أني أمتلك شجاعة لا تقهر، وآسفا أنا أخلد إلى النوم، وسعيدا عندما أستيقظ. سأعيش مائة سنة، لكني سأظل سعيدا وفرحا دائما وأبدا -وكل هذا بفضلك، أيها المعلم الكبير ستالين".
وفي مصر، كانت حركة الإخوان المسلمين التي أنشأها حسن البنا في أواخر العشرينات من القرن الماضي قد يدأت تفرض وجودها في المشهد السياسي والثقافي لتشرع في تكفير مفكرين ومثفقين وكتاب مرموقين.
أغلب الأحداث التي ذكرت ستكون ماثلة في ذاكرة العفيف الأخضر خلال مسيرته الفكرية الطويلة،وسيكون له صدى كبير في أغلب مؤلفاته،ومواقفه. كما أن الكتاب والمفكرين الذين ذكرت سيكونون ملهمين له كاتبا ومفكرا ومناضلا عنيدا، وشرسا.
وكان مولد العفيف الأخضر في ضواحي مدينة مكثر الواقعة في منطقة الشمال الغربي، المتاخمة للحدود الجزائرية. ونفس هذه المنطقة أنجبت في القديم عبقريتين هما أوغسطين، صاحب كتاب "الإعترافات" الذي أقتدى به كثير من الكتاب والفلاسفة الغربيين أمثال جان جاك روسو، وإرنست رينان، وكيركوغارد،وآخرين، وأبوليوس صاحب"رائعة الجحش الذهبيّ التي ألهمت العديد من كبار المبدعين من القدماء والمحدثين.
وكانت مكثر تسمى في القديم"ماكتريس".وتقول كتب التاريخ إنها قد تكون إحتضنت أول إنسان في الألفية الثامنة قبل الميلاد. وفي العهد النوميدي،أصبحت مدينة مزدهرة ومشعة على كامل أنحاء إفريقية(تونس اليوم) بفضل الإمبراطور الروماني ماركوس أورليوس الذي أنشأ فيها معالم لا تزال ماثلة للعيان إلى حد هذه الساعة. وبعد الغزو الوندالي في القرن الخامس ميلادي، ساءت أحوال مكثر. ثم إزدادت أحوالها سوء بعد الزحف الهلالي على البلاد التونسية في القرن الحادي عشر، فدُمّرت جلّ معالمها،وباتت بلدة موحشة وحزينة. وفي مطلع القرن العشرين، تدفق عليها المعمرون الفرنسيون لاستغلال أراضيها الخصبة،وفيها بنوا مدرسة عصرية، وناد لحفلات آخر الأسبوع لتشهد بفضل ذلك حياتها حيوية ونشاطا حرمت منهما لأمد طويل.
وينتمي العفيف الأخضر إلى عائلة فقيرة تعيش من الزراعة ومن تربية الماشية. وفي ما بعد سيقول لعبد القادر الجنابي في الحوار المشار إليه آنفا:”فقري المُدْقَغ أصابني منذ الطفولة بجروح نرجسية صاغت قناعاتي السياسية منذ الشباب وحتى الآن. فأنا أعتبر أن فقر أكثر من ثلثي الإنسانية شاهد إدانة على حضارة الإستهلاك. في الشمال يستهلك الفرد 90 كيلو لحم سنويا،وهو لا يحتاج إلاّ إلا إلى 9.وفي الجنوب لا يأكل الفرد من اللحوم كفاية. أجدني أردّد لا شعوريّا في الحمّام مثل هذا البيت:
إذا قتل الفقر اليتيم ولم يجدْ مُعيلا
فإن الموسرين جناة

وعوض أن يُكسب الفقر الطفل العفيف الكراهية والحقد،جعله يتحلى بعواطف إنسانية إنعكست في البداية في تعلقه الشديد بوالديه،وبأخيه الأصغر، وفي ما بعد بكل المقهورين والمظلومين في العالم بقطع النظر عن جنسياتهم،ودينهم،ولغتهم ولون بشرتهم. ورغم أنه أمّي، حرص الأب الفقير على إرسال إبنه إلى مدرسة عصرية تُعلم اللغتين العربية والفرنسية بمكثر، إلاّ أن الحرب الكونية الثانية حالت دون مواصلة تعليمه في المدرسة المذكورة التي كانت قد تحولت إلى مقر لإحدى القيادات العسكرية. وهكذا عاد العفيف إلى البيت المعزول في الريف وفي قلبه مرارة من حرم من شيء بات مفتونا به،فلا يحلو له غيره أبدا. وليخفف عنه تلك المرارة، بادر الوالد بإرساله إلى بيت عمته ليحفظ القرآن. وكان يعود كل يوم خميس إلى البيت العائلي.وعندما يفارقه في اليوم التالي يخيم على البيت الآسى والحزن على فراقه إذ كان الطفل يتميز بحيوية عجيبة،وبذكاء نادر في ذلك الريف العاري. ويقول الأستاذ البشير الأخضر:” كان العفيف سريع الحركة فلا يكاد يهدأ إلاّ في سكون الليل. وكان باستطاعته أن يسابق الخيول. و في يوم ختانه، شعر بالخوف ففر هاربا من البيت. وكان على الأهل أن يقطعوا مسافات مديدة راكضين خلفه قبل أن يتمكنوا من القبض عليه”... ويضيف الأستاذ البشير الأخضر قائلا:” وكان العفيف شديد الحساسية أيضا. كان ينفر من القبح ومن مظاهر الظلم،ويمقت المتكبرين والمتعجرفين.كما أنه كان يحب أن بتوحد بنفسه ليمكث ساعات طويلة وهو صامت مذهول فكما لو أنه غائب تماما عما حوله". وكان أيضا يحب التجول في الحقول. ورغم صغر سنه، كان يقطع مسافات طويلة غير عابئ بالحر وبالبرد الشديد الذي يزداد شدة وقسوة عند هطول الثلوج في فصل الشتاء. ومرة،سار في الثلج بحذاء مثقوب فانفجر الدم من ساقه. وفي ما بعد سيقول بإنه شعر بمتعة وهو يشاهد دمه يسيل أحمر على الثلج الأبيض، تضاهي متعته عند قراءته لقصيدة من قصائد شعرائه المفضلين.
بعد الحرب الكونية الثانية، وتحديدا في عام 1947ـ بدأت مرحلة جديدة في حياة الفتى العفبف. فقد إصطحبه إين عم والدته،وكان يدعوه "خالي" إلى العاصمة لينتسب إلى جامع الزيتونة. وفي العام التالي إلتحق به أخوه البشير. وكانت البداية عسيرة ومريرة. فقد سكن الطفلان في "وكالة”(فندق حقير) بالمدينة العتيقة كانت تأوي مشردين ولصوصا ومروّجي مخدرات ومجرمين فارين من العدالة. وفي كل ليلة كان البعض من هؤلاء يعربدون وهم سكارى برفقة بغايا، مطلقبن أغان بذيئة وسمجة. ويظلون على ذلك الحال حتى الصباح غالب الأحيان. ومرة قاموا بقتل بغيّ لسبب لم يدره الطفلان.وفي الليلة الموالبة حملوا جثتها في جنح الظلام ليدفنوها في مقبرة"الغربة"،وهي مقبرة خاصة بالمشردين ومجهولي الهوية. أرعب ذلك الحادث المريع العفيف وشقيقه فطلبا من ّ "خالهما"نقلهما إلى مكان آمن فسارع لإنقادهما من ذلك"الجحيم".
وكان عام 1949 عام الفاجعة التي ظلت تعذب العفيف وأخاه البشير على مدى سنوات طويلة. ففي 15 سبتمبر من العام المذكور، توفي والدهما. وقبل ذلك، كان العفبف قد عاش كابوسا مرعبا وهو يسير في الطريق. فقد خيّل إليه أنه يرى جثمان والده على حصان كان والده يتطير منه،وينعته ب"الشرود" لصعوبة ترويضه. وكان يقول:” لي إحساس أن هذا الحصان اللعين سيقتلني ذات يوم!”.وفعلا حُمل نعش الوالد على ظهر ذلك الحصان ليدفن في مقبرة "الدوار"(كلمة تعني في المغرب العربي بيوتا متفرقة يسكنها عادة أهالي من نفس العرش أو العائلة). أما في المنام فقد رآى العفيف زوج خالته يذبح خروفا كان والده قد اشتراه قبيل وفاته. وقد حدث ذلك في الواقع إذ تم ذبح الخروف المذكور للمعزين من قبل زوج الخالة بعد دفن الوالد. وقد كادت فاجعة موت الأب أن تكون سببا في إنقطاع العفيف وأخوه البشير عن التعليم. إلاّ أن ّشهامة رجل بعيد القرابة بالوالدة ذلّل الصعاب وأنقذهما من مصير مظلم". وفي ما بعد سيعترف العفيف الأخضر للبعض من أصدقائه بأنّ تلك الحادثة الأليمة (موت الأب) كادت تؤدي به إلى الجنون،وسيقول لعبد القادر الجنابي في حواره معه:”كانت وفاة والدي وأنا في الخامسة عشرة من عمري صدمة مروّعة لم أنجح في إقامة الحداد عليه ربما حتى الآن. مات أبي في كوخنا المعزول.وعندما عدتّ إلى العاصمة لمواصلة سنتي الثانية في التعليم الزيتوني،كنت أذهب كلّ مساء إلى سوق"العصرّ الذي يأتيه الفلاحون من "الملاسين"،وهو أحد الأحياء الفقيرة جدا، يسكنه الريفيون النازحون. وكلما رأيت فلاحا يرتدي برنسا ركضت لأنظر إليه من أمام عسى أن يكون أبي الذي دفنته في مقبرة القرية. يعني ذلك أنني لم أصدق موته!وهي حالة تقود إلى الجنون".
ولم تكن حالة البشير أخف وطأة من حالة أخيه العفيف. وهو يقول أنه لما رآى جثمان والده مُسجى على الحصير في الكوخ أطلق صرخة مفزعة فإذا به يرى والده يفتح عينيه للحظة ثم يغمضهما إلى الأبد. وظل البشير يطلق تلك الصرخة في نومه لسنوات طويلة!
فاقديْن لحنان الأب ولرعايته، واصل الشقيقان تعليمهما في العاصمة في ظروف قاسية وعسيرة. ورغم الفقر والخصاصة، كانا يجدان في الإقبال على الدراسة ما يزيدهما حماسا ونشاطا.ويقول البشير أن العفيف أغرم بالمسرح.وأكثر من مرة ذهب برفقته لمشاهدة مسرحيّات تونسية ومصرية. من ذلك مثلا أنهما شاهدا معا مسرحيتين ليوسف وهبي هما "مجنون ليلى"،و"أبناء الشوارع". إلى جانب المسرح،كان العفيف يمضي جلّ اوقاته في القراء فلا يكل ولا يمل من ذلك لا في الليل،ولا في النهار. وعندما لا يسمح له جيبه باقتناء كتاب أو مجلة، كان يقف أمام مكتبة من المكتبات،وينهي كتابا أو مجلة وهو واقف متحديا البرد والحر،وغير مبال بلغط المارة. عن ظهر قلب حفظ قصائد الشعراء القدماء، خصوصا ديوان المتنبي، و"لزوم ما يلزم" للمعري الذي سيظل ملازما لقراءته والإستشهاد به في جل مؤلفاته لأنه جعل منا العقل " إماما" ومرشدا وهاديا. وكان يقبل بنهم على مؤلفات طه حسين إلى"درجة الذوبان". ومن شدة إعجابه به، كان " يضع عصابة على عينيه كما لو أنه أعمى"،ويرتجل أمام زميل له يدعى الهادي باللأخضر مقلدا عميد الأدب العربي.
ويقول البشير الأخضر :”بعد أن قرأ العفيف كتاب"الأيام لطه حسين،أصبح يتمنى في كل يوم أن يصبح نسخة منه. كما أنه أصبح يحلم بأن يكون مثله كاتبا شهيرا،ومستور الحال".
ومثلما ضاق طه حسين بشيوخ الأزهر في سنوات الدراسة، لم يعد العفيف يتحمل العديد من شيوخه.وكان يجاهر بانتقادته لهم، وبطرقهم البالية والمُضْجرة في التدريس. الشيخ الوحيد الذي جذبه،ووجد في محاضراته ودروسه ما يغري، ويفتح الذهن،ويغذّي الروح والفكر هو الشيخ الفاضل إبن عاشور الذي كان يدرّس طلبة التعليم العالي في جامع الزيتونة في حين كان هو آنذاك لا يزال في حلقة التعليم الثانوي. وأكثر من مرة، ترك العفيف درس واحد من شيوخه ليستمع إلى محاضرات الشيخ الفاضل إبن عاشور غير مبال بالصفر الذي سيحصل عليه جراء ذلك. ولما لاحظ الشيخ الفاضل مواظبة التلميذ العفيف على حضور دروسه، وشغفه به وبها، تعاطف معه، وتوطدت العلاقة بينهما. وقد يعود ذلك إلى أن الشيخ الفاضل لم يكن يخفي إنحيازه المبدئي إلى الحركات الإصلاحية والتحديثية في تونس،وفي العالم العربي والإسلامي. وكان يبدي إعجابه بالمصلح خير الدين باشا صاحب كتاب"أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك"،وبالشيوخ المستنيرين الذين ساندوا إصلاحاته، ووقفوا إلى جانبة في أوقات المحنة والإقصاء. كما أنه كان يكنّ تقديرا كبيرا للشيخ عبد العزيز الثعالبي الذي نادى في كتابه " روح التحررفي القرآن" بضرورة تحرير المرأة، والإنفتاح على الحضارة العربية لكي يخرج العالم الإسلامي من ظلمات الإنحطاط والتخلف. ومن المؤكد أن طه حسين والشيخ الفاضل إبن عاشور كانا من ضمن المعلمين الكبار الذين رسّخوا الأفكار التحديثية والإصلاحية في ذهن الشاب العفيف الأخضر. تلك الأفكار التي سيظل متعلقا بها،ومدافعا عنها دفاعا مستميتا حتى اللحظة الأخيرة من حياته.
في عام 1952،بعد اندلاع الثورة التحريرية من أجل الإستقلال،شرع العفيف الأخضر في نشر مقالات سياسية في جريدة"الصباح"،مُبديا تحمسه للحزب الحر الدستوري، ولزعيمه الحبيب بورقيبة.وعلى أحد المنابر، ألقى محاضرة ندد فيها باعتقال المناضلين الوطنيين،وفي مقدمتهم بورقيبة. أغضبت تلك المحاضرة السلطات الإستعمارية، فسارعت باعتقال العفيف. وفي البداية تّم حبسه في العاصمة. وبعد بضعة أيام نُقل إلى "ضاحية "المحمدية الجنوبية التي تبعد عن العاصمة ب20 كيلومترا. وبعد شهر جاء إلى اخيه البشير وقد أرهقه الجوع والتعب وبدا وسخا،وفي حالة لا تختلف عن حالة المشردين الذين ينامون في المقابر وفي الشوارع. ويقول الأستاذ البشير:” في صيف عام 1953،كنا في الريف قرب مكثر. وذات ليلة، متحمّسا للمعركة التحريرية، حمل العفيف إلى المقاتلين في الجبال القريبة بندقية حربية، ومسدسين،وطلب من قائدهم وصلا كشهادة على ذلك".
وفي عام 1954 إزداد حماس العفيف للنضال الوطني فأسس شعبة الطلبة الدستوريين ".وكان رئيسا وكاتبا عاما لها. وفي نفس هذه السنة، عاشت تونس حدثا سياسيا تاريخيا بالمعنى الحقيقي للكلمة. ففي الصيف، جاء إلى العاصمة الوزير الأول الفرنسي الإشتراكي منداس فرانس ليعلن إنطلاقا من قصر الباي محمد الأمين بضاحية المرسى، عن نيّة بلاده منح تونس إستقلالها الداخلي قائلا:”إن الحكومة الفرنسية تعترف بالإستقلال الداخلي للدولة التونسية بدون قصد خفيّ،وهي حريصة في نفس الوقت على تأكيد ذلك من حيث المبدأ والعمل على أن تُوفّرَ لتحقيقه جميع حظوظ النجاح". ثم أضاف قائلا:”إن درجة التطور التي بلغها الشعب التونسي،والتي يحقّ لها أن تبتهج به، لا سيّما وقد ساهمنا كثيرا في ذلك، وكذلك قيمة نخبته اللافتة للنظر، تبرّرُ قيام ذلك الشعب بإدارة شؤونه بنفسه.وبناء على ذلك، فإننا مستعدون لإحالة الممارسة الداخلية للسيادة إلى شخصيّات ومؤسسات تونسية". ومن"شانتيي" بفرنسا التي كان مقيما فيها بعد أن أمضى سنتين في معقتل جزيرة جالطة، أعلن بورقيبة الذي كان يقود الحركة الوطنية اعتمادا على نظريته الشهيرة المعروفة ب"سياسة المراحل"، بإعلان م مواقفته على الإستقلال الداخلي معتبرا إياه"خطوة هامة نحو الإستقلال التام"،وطالبا من المقاومين تسليم أسلحتهم. أما صالح بن يوسف، الزعيم الآخر للحزب الحر الدستوري التونسي، والذي كان مقيما في جينيف،فقد ندد بالإستقلال الداخلي واصفا إياه ب"مؤامرة خبثة ودنيئة ضد حق الشعوب المغاربية في الحصول على إستقلالها التام"،محرضا المقاومين على مواصلة القتال”حتى النصر النهائي”..وكان من الطبيعي أن يفضي موقفا الزعيمين المنتناقضين إلى إنشراخ داخل الحزب،وأن تستعر الخلافات بينهما لتؤدي في النهاية إلى نزاع مرير لم يخف سعيره إلاّ بمقتل صالح بن يوسف في مدينة فرانكفورت الألمانية في صيف عام 1961. وليكون ل"تماهيه" مع الزعيم بورقيبة معنى فعليا، خيّر العفيف الأخضر الإنحياز له. ومع شقيقه البشير كان من ضمن الجماهير الغفيرة التي استقبلت الزعيم بورقيبة في فاتح شهر حزيران 1955 ليكون ذلك اليوم في ما بعد عيدا وطنيا(عيد النصر).
ورغم أن شخصيات وطنية كبيرة سعت جاهدة إلى إقناع صالح بن يوسف بضرورة قبول الإستقلال الداخلي، فإن هذا الأخير ظلّ متشبثا بموقفه،موجها إنتقادات لاذعة لبورقيبة في خطبه،وفي تصريحاته للصحف الأجنبية بالخصوص. وفي 13 سبتمبر من العام المذكوز، عاد صالح بن يوسف إلى تونس فخصّ هو أيضا باستقبال جماهيري كبير. وقد حرص الحبيب بورقيبة على أن يكون في مقدمة مستقبليه. وعندما شاهدتهما الجماهير وهما يسيران جبنا إلى جنب،إزدادت حماسا وفرحة معتقدة أن الخلافات بينهما قد سويت. وحين أطل عليها الزعيمان من شرفة بيت صالح بن يوسف، تعالت الهتافات والزغاريد. ثم خطب صالح بن يوسف مركزا على أن الإتفاقيات منقوصة،وأنها تمثل خطرا كبيرا على استقلال وحرية البلاد. وردا عليه، أجاب بورقيبة بأن الإتفاقيات إيجابية لأنها تخلص تونس من الإدارة الإستعمارية،وتحررها منها،إلاّ أنها لا توقف ولن توقف المسيرة نحو الإستقلال الكامل. عندئذ بات واضحا للجميع أن كلّ واحد من الزعيمين الكبيرين متمسك بموقفه،وأن الخلافات لا تزال مُستعرة بينهما. لذلك انسحبت الجماهير حزينة مضطربة ومرتابة من مستقبل البلاد. وهكذا إنطفأت الفرحة، وبات الجو جنائزيا بالمعنى الحقيقي للكلمة. ورغم أن التيار العام داخل جامع الزيتونة كان متضامنا مع صالح بن يوسف، فإن العفيف الأخضر سبح ضده،وظل مناصرا للزعيم بورقيبة. وفي المقالات التي دأب على نشرها في جريدة"الصباح"،واصل دفاعه المستميت عن مو مواقف بورقببة ولإصلاحاته في حميع المجالات. وازداد دفاعه عنه قوة وصلابة بعد حصول اليلاد على استقلالها في 20 مارس 1956.أما صالح بن يوسف فقد تم عزله من الحزب الحر الدستوري ليجد نفسه مُجبرا على الفرار إلى مصر باحثا عن العون والدعم من نظام الرئيس جمال عبد الناصر.
وفي تلك الفترة الموسومة بالإضطرابات السياسية، لم يكتف العفيف الأخضر بكتابة مقالات سياسية، بل اهتم بالأدب أيضا. ومتأثرا بالشاعرة العراقية نازك الملائكة، نشر في جريدة "الصباح" قصيدة حرة زاعما أنها واحدة من قصائد يحتويها ديوان له سماه"إحتراق". ولعله كتب تلك القصيدة تحت تأثير قصة حب لم يرغب في الإعلان عنها لا في ذلك الوقت،ولا بعده. ومدركا أن التعليم الزيتوني لن ينفعه كثيرا،أقبل العفيف الأخضر على تعلم اللغة الفرنسية ليصبح مّتْقنا لها في ما بعد. كما حاول تعلم اللغة الروسية، مُعلنا للبعض من أصدقائه أنه ينوي السفر إلى موسكو ليزداد معرفة وتمرّسا بلغة بوشكين. وبفضل جائزة أدبية مرموقة فاز بها، تمكن العفيف الأخضر من الحصول على إقامة في "الحي الزيتوني" الذي كان شبيها بفندق بخمس نجوم. منذ ذلك الحين،أصبح يتصرف كرجل ثري يدعو أصحابه إلى مآدب ومجالس لمناقشة قضايا سياسية وأدبية وفلسفية. ومستحضرا تلك الفترة"الذهبية" من حياة العفيف، يقول الكاتب حسن نصر الذي كان آنذاك طالبا في جامع الزيتونة:”كنت في بداية مسيرتي الأدبية. وكانت مجلة"الفكر" التي أسسهها الأستاذ محمد مزالي قي بداياتها. أرسلت إليها إليها قصة. ولما لاحظت أنها نشرت وأنا مَارّ أمام مكتبة قريبة من جامع الزيتونة،أردت إقتناءها إلاّ أن النقود التي كانت في جيبي لم تكن كافية. تحدثت مع صاحب المكتبة راغبا في الحصول عليها بالدين، إلاّ أن شابا نحيفا كثيرا ما كنت أراه واقفا أمام تلك المكتبة، تفضل مشكورا باقتانائها لي. ولم يكن ذلك الشاب سوى العفيف الأخضر الذي أصبح صديقا لي منذ ذلك اليوم. وكان يلتهم الكتب بشكل لم أعهده عند أي واحد من معارفي في تلك الفترة. وكان قادرا على تلخبص الكتب بطريقة رائعة،وجذابة. وكانت معارفه واسعة في جميع المجالات. بإمكانه أن يتحدث في الفلسفة وفي الأدب وفي الفن وفي المسرح وفي السينما فلا يضاهيه في ذلك أحد..كان مثقفا عجيبا حقا".
في سنة 1956، وهي نفس السنة التي حصلت فيها تونس على استقلالها، تخرج العفيف الأخضر من المدرسة العليا للحقوق ليعمل محاميا متربصا في مكتب المحامي الكبير محمد بللونة. وقد سمحت له مهنته الجديدة بجلب والدته من الريف القاسي لتقيم معه ومع شقيقه البشير في حي "مونفلوري" الراقي بالعاصمة. إلاّ أن سنة 1957، كانت سنة كأداء بالنسبة للعفيف الأخضر. ففي تلك الفترة كان الصراع لا يزال مشتعلا بين الزعيمين الحبيب بورقيبة، وصالح بن يوسف.وكان أنصار هذا الأخير يقبعون في السجون،ويخضعون لعمليات تعذيب وحشية في بيت عتيق بقلب المدينة العتيقة يسمى"صباط عجمّ(حذاء العجم).ومن لم يشملهم القمع والملاحقات، فروا إلى المنافي مثلما فعل صالح بن يوسف. وذات يوم، تم القبض في منطقة الجريد بالجنوب الغربي للبلاد على أحد المناصرين لصالح بن يوسف، ويدعى صالح النجار. ومثله هو من جزيرة جربة. وقد وجهت له تهمة محاولة إغتيال بورقيبة،وتم تكليف العفيف الأخضر بالدفاع عنه.ومع أنه كان من المدافعين الشرسين عن بورقيبة،وعن نظامه،إلاّ أنّ العفيف أراد أن تكون مرافعته مُقيّدة بروح القانون، أي أنه أظهر فيها أن الحكم بالإعدام لا يجوز لأن القانون لا يعترف بالجريمة إلاّ عند الشروع الفعلي في تنفيذها. وقد أغضبت تلك المرافعة الجريئة الزعيم بورقيبة، ونظامه.ومن دون أدنى مراعاة لها،حكمت بالإعدام الفوري على صالح النجار. وكان ذلك سببا في حدوث قطيعة نهائية بين العفيف الأخضر والنظام الجمهوري الذي أرسى بورقيبة دعائمه. وفي ظرف زمني قصير، أصبح النظام المذكور يتصرف مع العفيف الأخضر كما لو أنه عدو لدود. فكان بلاحقه طوال الوقت، ويرصد حركاته وسكناته، ويسجل أقواله في المقاهي،وفي المجالس العامة والخاصة. بل أصدر النظام قرارا مُجحفا يقضي بحرمانه من زيارة المنطقة التي ينتسب إليها. وبوما بعد آخر، راح الخناق بشتد حول رقبة العفيف حتى بات يحس بالإختناق القاتل. لذلك قرر الهجرة. وفي العاشر من شهر جانفي 1961، رافقه شقيقه البشير إلى مطار "العوينة" ليركب الطائرة إلى باريس، فلن يعود إلى تونس إلاّ بعد عشرين عاما.