يمر العالم اليوم بتحديات غير مسبوقة، بعد أن حولت تكنولوجية الاتصالات والمواصلات العالم لقرية عولمة صغيرة، حيث لم يعد الاعلام الحكومي مؤثرا، بعد أن سيطرت تكنولوجية الشبكات الاجتماعية على الحوارات المجتمعية، كما أن الهيمنة العسكرية النظامية اصبحت مكلفة ومترهلة، بعد أن انتشرت تكنولوجية الاسلحة التكنولوجية الصغيرة، بين الفئات المتطرفة الصغيرة، والمنتشرة بين المدنيين،والذين اعتنقوا عقيدة الانتحار، للوصول للحور العين. بل، وحتى الدبلوماسية تمر بمرحلة معقدة في تاريخها، بعد أن فقدت الدول العظمى هيمنتها المطلقة، على مصير شعوب العالم. ومع جميع هذه التطورات، تكررت في منطقة الشرق الاوسط ثورات القرون الوسطى الثيوقراطية الأوربية، التى عانت منها شعوب الغرب قبل حوالي 450 سنة، لأكثر من 150 عاما، والذي قتل فيها أكثر من ربع الشعب الألماني، حينما حاول القس مارتن لوثر التمرد على هيمنة الثيوقراطية الدينية، بل واصلاحها. وقد وصلت اليوم الصراعات الطائفية الثيوقراطية لمرحلة تقرير وجوديفي المنطقة، والتي فقدت مفاهيم المواطنة قيمتها في الكثير من دولها. بل، ولتتكرر نكبة اللاجئين مرة أخرى، والذي سيتجاوز عددهم الاثنى عشرا مليونا. ويترافق كل ذلك بظاهرة خطيرة على استقرار الدول، وهي تباين ثراء كبير منذ سبعينات القرن الماضي، والتي انتشرت بسبب تحديات سوق العولمة، حيث يملك 0.7% من شعوب العالم ما يقارب 41% من ثراءه، أي 99 تريليون دولار، بينما يملك 8% من شعوبه84% من ثراءه، أي 200 تريليون دولار، في الوقت الذي يملك 69% من باقي شعوبه 3% من هذا الثراء، أي 7 تريليون دولار. ولم يتحدد هذه التباين بين دول الشرق، بل امتد أيضا لدول الغرب الديمقراطي، فمثلا 10% من الشعب الأمريكي يملكون 78% من ثراء الولايات المتحدة، بينما يملك 50% منهم 2% من هذا الثراء،بل لتتكرر نفس هذه النسب في معظم الدول الغرب.

ويبقى السؤال: ألم يؤدي التباين العولمي للثراء لانتفاضات ما بعد عام 2009،من انتفاضة الثورة الخضراء الايرانية بشعارها، "أين حقي"، وإلى انتفاضة الشعب الامريكي في شوارع الوول ستريت، والتي امتدت لشوارع لندن، وباريس، ومدريد،ودبلن، وحتى اليونان، بل ولتنتشر لهيبها لمنطقتنا العربية، والتي سماها مفكرو الغرب بالربيع العربي، بينما سمتها الانظمة الثيوقراطية، والمعارضة الدينية المتطرفة،بالصحوة الاسلامية، والتي استغلت من الحركات الطائفية بطرفيها، السني والشيعي، لقلب انظمة الحكم في المنطقة، وباسم الحرية والديمقراطية، والتي لا تؤمن بها هي أصلا؟

والجدير بالذكر أن نتذكر بأن هناك استراتيجية امريكية جديدة في الشرق الأوسط، بعد أن بدأت الولايات المتحدة اكتفائها الذاتي من الطاقة الاحفورية، وزادت الكلفة البشرية والمالية لصراعاتها في المنطقة، والتي ترافقت بتحديات ثيوقراطية، من صرعات القاعدة وداعش، والحروب الاهلية بالوكالة في سوريا، ولبنان،والعراق، واليمن، وحتى الحروب النظامية السابقة، والتي كلفت شعوب منطقة الشرق الاوسط الملايين من القتلى والجرحى، والتريليونات من الدولارات. ولتؤكد هذه الاستراتيجية الامريكية الجديدة على ضرورة تحويل الدور الأمريكي في صراعات المنطقة إلى دور ثانوي، بينما تحول المسئولية الرئيسية لمجموعة من دول المنطقة،تشمل السعودية (ممثلة للدول العربية)، وتركيا، وايران، واسرائيل، بشرط خلق توازن قوى بينهما، لمنع هيمنة أحدها، للوقاية من الحروب المستقبلية المدمرة بينها. 

ومن بين هذه الصراعات الشرق الاوسطية المريرة، والتغيرات الاستراتيجيات الغربية المتوقعة، وأهمية دور المملكة العربية السعودية فيها، تطل علينا في الاعلام الالكتروني أصوات خيرة، تجمع بين الحكمة، والرزانة، والرصانة، مع استنارة عقول عصرية. فقد لفت نظري مقالين، أرجو أن يسمح لي عزيزي القارئ أن اشاركه في مناقشتهما. فقد كتب الاستاذ خليل حيدر، بصحيفة الوطن الكويتية، وبعنوان، هل المملكة العربية السعودية، بصداقتها للولايات المتحدة والغرب،أهم لسلامة الشيعة في المنطقة، أم ايران الاسلامية التي تصرخ ليل نهار "الموت لأمريكا"؟ فبدأ بمقدمة يقول فيها: "أليس من الأجدى للشيعة كسب السعودية،بدلاً من الانحياز ضدها، والوقوع في المصيدة الطائفية، وربما الانسحاق بين حجري الرحى.. ايران والسعودية؟ قلة من الشيعة، تدرك بان السعودية في الواقع أهم بكثير في هذا المجال من ايران، وان السعودية والدول الخليجية، هي التي تضمن للشيعة هذا التسامح المذهبي، وهذا المستوى المعيشي الرفيع.. لا مغامرات السياسة الايرانية.. ان مستوى معيشة الشيعة ومصالحهم، واستقرار حياتهم، وحتى اسعار عقاراتهم، وتجارتهم، وكل ما هو جدير بالاهتمام والدفاع، مرتبطة، وبقوة، باستمرار قوة دول مجلس التعاون الخليجي بقيادة السعودية، مهما كانت التفاصيل بعد ذلك.ان النفط وحده لا يحقق الاستقرار والثراء للكويت والمنطقة الخليجية، فلابد لنا من قوة تحقق الاستمرار، وتردع جماعات التخريب، والسياسات المغامرة، التي نرى بعض نتائجها في لبنان، وغزة، وسورية، والعراق.. وغيرها! استقرار السعودية،وقدرتها على منع زحف الارهاب والاضطرابات على المنطقة، ضرورة ملحة. وإذا انتكست السعودية، فسندفع جميعا الثمن.. وبخاصةالشيعة. استطعنا مثلا معايشة ظروف اضطرابات ايران وثورتها عام 1979، على امتداد اكثر من سنة، من دون ان نتأثر كثيرا في الكويت، ولكن هذا مستبعد تماما لأي اضطرابات مماثلة فيالسعودية. فقد انقلبت ايران رأسا على عقب، وسقط النظام الملكي، وجاء نظام جديد، وعصفت بإيران قوى وقوانين جديدة، من دون ان يزعزع كل ذلك اوضاع الكويت والمنطقة الخليجية، وفيما تدهور الوضع المالي والاقتصادي لشيعة ايران،وتدهورت عملتهم، وتبخرت الثقة بجوانب كثيرة من حياتهم، بينما بقي ثراء وممتلكات شيعة الخليج من دون ان تمس، وكان تأثير ازمة سوق المناخ في ثمانينيات القرن اشد من الثورة الايرانية. فالمنظومة الخليجية، بشعوبها، ودولها، وطوائفها، وما تتمتع به من ثراء واستقرار، ناجم عن العقلانية السياسية، وعدم الاندفاع خلف المغامرات السياسية. ومثل هذه البيئة هي التي تحمي الاقليات، وتوفر لها فرص الاستفادة والازدهار، ومثل هذا الاستقرار تدافع عنه دول الغرب في هذه المنطقة،ومن هنا التقاء المصالح. والجمهورية الايرانية من جانب آخر جارة كبرى، ودولة اقليمية ذات اهمية لا جدال فيها، وذات سواحل خليجية ممتدة، كما ان صداقتها مهمة جدا، للكويت خاصة. ولكن نظام ايران الجمهوري الاسلامي، مختلف تماما عن انظمة دول مجلس التعاون. وهو اختلاف لا علاقة له بالمذهب او الفقر والغنى،بقدر ما هو قائم على التوجهات الثورية والراديكالية والسرية لهذا النظام، وتحركاته غير العادية، وسياساته الداخلية والخارجية، وتجربته الدينية العقائدية والتاريخية،وغير ذلك."

ويستمر الكاتب في حواره: وان جيران ايران قلقون لا بسبب مذهب ايران الشيعي، بل بسبب نظامها وشعاراتها. انه نظام خرج من رحم ثورة دامية، استمر التحضير لها سنوات، ولايزال قادته في صراع بين الثورة والاستقرار، وبين الحركة والدولة الثابتة، وقد عاش شيعة الخليج، وشيعة ايران نفسها، قرونا من دون ان يسمعوا بهيمنة الولي الفقيه، وتمتعه بسلطات استثنائية شمولية، ولا سمعوا بقوة،تسمى الحرس الثوري والبسيج، وغير ذلك. وقد يكون النظام نابعا من تجربة الشعب الايراني، وله اتباعه وأنصاره، ومن يرون أنه النظام الاسلامي المثالي، ولكنه يبقى نظاماً غير مفهوم كويتياً وخليجياً، وحتى على الصعيد الأكاديمي! من جانب آخر،لم يحقق النظام بعد كل هذه العقود والجهود، الرفاهية الاسلامية الموعودة والمأمولة،لشيعة ايران، وسنتها، وبقية قومياتها، رفاهية تضاهي مثلاً رُبع رفاهية شيعة الكويت، وبقية دول مجلس التعاون، ولم يقترب نجاح النظام حتى من قفزات النجاح التركي، على الرغم من ان ثورة ايران اقدم من تحولات تركيا، وعلى الرغم من ان ايران تسبح فوق بحيرة بترولية، وتنعم بقدرات سياحية وزراعية وصناعية ضخمة،ولها مكانة مذهبية متميزة، الى جانب مليارات الدولارات الخليجية والدولية التي هي على أهبة الاستعداد لدخولها، ان استقر النظام على سياسة الاعتدال والأعراف الدولية، حتى متوسط دخل المواطن الايراني لا يزال بالمقارنة شديد الانخفاض وفق الاحصائيات الدولية، والبطالة منتشرة، والعملة في غاية الضعف والتضخم،والتسيب يشمل كل مظاهر الحياة كما ظهر جلياً من خطابات السيد رئيس الجمهورية حسن روحاني، والرغبة في الهجرة والخروج من البلاد معروفة ومشاهدة.واذا خسرت السعودية معركتها، وهيمن التطرف، والإرهاب، والميليشيات على المنطقة، فقل للسلام، والاستقرار، والتسامح الطائفي، والحياة الدستورية وباختصار كل شيء.. الوداع! لا مصلحة للشيعة في معاداة السعودية، ولا حل لمشاكلهم بتمجيد ايران، ولا في تقديم خدمات مجانية للنزاع الطائفي، ولا في اضفاء الطابع المذهبي على هذا الصراع. كما ستجلب قوى التعصب والتعبئة المذهبية، التي تتلاعب بمصير ومصالح واستقرار شيعة المنطقة الخليجية لنا، نفس الكوارث التي نزلت بمن قبلنا في اماكن كثيرة، تحت شعارات مثل الموت لامريكا والموت لاسرائيل،فلن يموت احدا غيرنا. افيقوا يا عقلاء المنطقة شيعة وسنة، وتحركوا يرحمكم الله.

​كما كتب بصحيفة "انحا" السعودية، الاستاذ طراد بن سعيد العمري، يقول:"سبق لي في مؤتمر إستراتيجي، عقد في أبو ظبي، أن طرحت مبادرة إنشاء جمعية الصداقة السعودية الإيرانية، بالرغم من كل ما نعرفه من تأزم سياسي،واحتقان إعلامي غير مبرر من الطرفين. ولا زالت مبادرتنا قائمة حتى الآن، بل تزداد الحاجة إليها يوماً بعد يوم. فجمعية الصداقة السعودية الإيرانية هي واحدة، من السبل والوسائل لعلاقة حسن جوار بين شعبين، تأمل الغالبية العظمى منهم، في التعارف والتلاقي على مفهوم الإنسانية، والتبادل التجاري والثقافي، ونبذ الخلاف،والابتعاد عن مكر السياسة، وسياسة المكر. ولذا، فإننا نهيب بالعقلاء من الشعبين،أن يجعلوا من هذه الجمعية بوابة خير. فإنشاء الجمعية من عدد مختار من المجتمع السعودي والإيراني، سيشكل توازن في العلاقة بين البلدين، بدلاً من ترك الأمور معلقة بين المتطرفين والمتشددين، والذي سيؤدي حتماً إلى استمرار خلاف واختلاف، تعود جذوره لقرون طويلة.. مما سينعكس سلباً على أداء السياسيين،وبالتالي على العامة من المجتمع. ولذا، فإن وجود جمعية للصداقة بين الشعبين،سيخلق خيار حضاري بعيد عن أراء المؤدلجين، وسيفتح أفاق تنعكس إيجاباً لمصلحة الدولتين والشعبين وما بينهما. لقد أفسد الساسة والسياسة علاقات إنسانية، كان يمكن لها أن تزدهر، بين شعبين يملكون من القيم والرغبة في التعارف، وفتح أفاق التعاون أكثر بكثير من الأفق الضيق الذي تنتهجه السياسة، والمحكوم بمعادلات تتعدى بكثير الحسابات الثنائية أو الإقليمية، مما أخرج القضية من بين يدي الدولتين الجارتين. ولو جمعنا ما في جعبة السياسيين في البلدين من ملاحظات لكل منهم على الآخر، لوجدنا أن النتيجة "صفر". إذ يتساوى وزن تهم كل طرف، وزن مالدى الطرف الأخر من تهم، والمماحكات السياسية لن تنتهي."

ويستمر الكاتب في حواره: و(بعض) الإعلام بدوره هو الخادم المطيع للساسة والسياسيين، وبقليل من التوجيه، وكثير من الإثارة، تدخل علاقات شعبين متجاورين إلى دائرة الكراهية والعداء، من دون دلائل ملموسة أو حقائق ثابتة، حتى تتحول العلاقات الإنسانية بين شعبين إلى لعبة بيد حفنة من السياسيين أو الدينيين أو الإعلاميين. وهنا يتحول الجار الشقيق إلى خصم، ثم إلى عدو، من دون سبب ذَا أثر بل خدمة لأغراض سياسية محدودة وضيقة، سيكشفها التاريخ طال الزمان أم قصر، وستسخر الأجيال القادمة من حقبة تاريخية نبتت فيها عداوات "مفتعلة".والغالبية العظمى من الشعبين يدركون أن ما يتردد على القنوات الفضائية في الإعلام العتيد، هو شيء من التهويل السياسي. كما أن معظم الشعب السعودي والإيراني محبين للسلام، والتعارف، والتعاون، والتبادل الثقافي والتجاري، بكثير من القيم الإنسانية العليا. شعب الجزيرة العربية على الضفة الغربية للخليج يتكون من قبائل تحمل قيم أصيلة، وجميلة، ونبيلة، تحمي الجار، وتغيث الملهوف، وتنكر العداء والإعتداء. وكذلك الشعوب في إيران على الضفة الشرقية من الخليج، تملك من الموروث الأصيل، الجميل، النبيل، ما تفيض به الأنفس، بهاء، وجمال، وثقافة، وحب للحياة، والاستقرار والازدهار. فإنشاء جمعية الصداقة السعودية الإيرانية هو ترجمة لآية كريمة في التنزيل الحكيم: "إدفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم." هذا التوجيه الإلهي الكريم هو لمن بيننا وبينه عداوة، فكيف بشعب ودولة لم تصل العلاقة الى مرحلة العداوة؟ يمكن توصيف العلاقة مع إيران بالخصومة السياسية لكن لم تصل، ولن تصل بإذن الله، إلى مرحلة "العدو". ايران تناور سياسياً، لتحقيق مصالحها الذاتية، والسعودية أيضا، لكن كلا الدولتين تعرف تماماً حجم ومستوى ووزن الخصومة وتعملان، أيضاً، على إبقاء العلاقة في حدود الممكن. اخيراً، نطرح مبادرة إنشاء جمعية الصداقة السعودية الإيرانية، وسنعمل مع الجهات الرسمية في كل من السعودية وإيران على تشجيع هذه المبادرة. كما نهيب بالشخصيات البارزة، والمؤثرة، في البلدين، لدعم هذه المبادرة، بل والمساهمة فيها بارائهم، وأفكارهم، لفتح باب جديد، لمزيد من التعارف بين الشعبين، وإبراز نقاط التلاقي أكثر من نقاط الخلاف، مما سيساعد السياسيين في الدولتين على التوازن في العلاقات. ختاماً، يقول الحق سبحانه وتعالى: "يا أيها الناس إنَّا خلقناكم من ذكر وإنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا..". فهل ننفذ التوجيه الإلهي بالدفع بالتي هي أحسن؟ وهل سنحقق المراد من الخلق، ونبادر بالتعارف مع أقرب الشعوب إلينا؟ ولنا لقاء.

سفير مملكة البحرين في اليابان