يتميز القادة الكرد بالإخفاق الدائم في تحالفاتهم السياسية، فطوال تاريخ الثورات الكردية المتتالية لم ينجح أي من القادة الكرد في حسن إختيار حلفائهم وفي قيادتهم الدبلوماسية للحركات التحررية الكردية..ولعل هذا الفشل هو الذي أدى بالشعب الكردي أن لا يكون له صديق سوى الجبال.. فلو أخذنا التاريخ القريب وبدأنا بالثورة التي قادها الشيخ محمود الحفيد، سنجد بأنه رفض أن يضع يده بيد الإنكليز الذين إحتلوا العراق وكانوا في عصره القوة العالمية الوحيدة التي لاتغيب عنها الشمس.. فلم يدرك الشيخ بأن المملكة الناشئة التي قادها في السليمانية كانت بحاجة الى قوة عظمى تسندها لكي تستطيع أن تثبت أقدامها وتفرض نفسها كأمر واقع ومقبول، فعادى الإنكليز وحاربهم حتى نجحوا اخيرا في إزاحته ثم نفيه الى خارج كردستان.
وكذا الحال بالنسبة للملا مصطفى البارزاني الذي قاد ثورة أيلول بين عامي 1961-1975، حيث وضع كل مقدرات شعبه وثورته بيد شاه إيران رافضا كل العروض التي قدمتها الحكومة العراقية آنذاك لمنح الكرد الحكم الذاتي، فعاود القتال عام 1974 مع تلك الحكومة التي نجحت دبلوماسيتها أخيرا بإرضاء الشاه ببعض التنازلات فقمعت الثورة وإنهارت.
وحين إندلعت الثورة الجديدة بكردستان عام 1975 وظهر العديد من الأحزاب الثورية على الساحة ، أخفقت تلك الأحزاب بدورها في إقامة تحالفات سياسية حتى فيما بينها، بل وحتى الإتفاق على الحد الأدنى من التعاون العسكري في مواجهة أحد أهم جيوش المنطقة وهو الجيش العراقي المدجج بترسانة عسكرية هائلة،مما قاد خلافاتهم الى الإنشغال بحرب داخلية في جبال كردستان متناسين أهدافهم الأساسية في مقارعة الدكتاتورية. فلم يستغلوا الدعم الشعبي والممارسات الإرهابية لنظام البعث لتحرك دبلوماسي يهدف الى تلقي الدعم الدولي للثورة، فظلت الجبال المصطبغة بدمائهم وحدها هي المعين والسند دون الآخرين. ولذلك حين قامت الإنتفاضة الشعبية عام 1991 بعد هزيمة الجيش العراقي في حرب الخليج، سرعان ما تحركت قوات الحرس الجمهوري نحو مدن كردستان لقمع الإنتفاضة، ولولا العطف الدولي على الشعب الهارب نحو الجبال، ولولا مشاهد التلفزيونات العالمية التي صورت مأساة الكرد في تلك اللحظة، لما تحركت دول العالم لفرض المنطقة الآمنة وإرغام نظام صدام بالعودة الى جنوب خط العرض 36 وإنقاذ الشعب الكردي من جريمة إبادة أخرى على غرار الإبادات الجماعية بمدينة حلبجة وعمليات الأنفال..
وبعد سقوط نظام صدام كانت هناك فترة هدوء نسبي في العلاقات السياسية بين الأحزاب العراقية، وذلك بفضل التواجد الأميركي على الأرض، ولكن ما أن صدر قرار الإنسحاب الأميركي من العراق حتى بدت الخلافات بين تلك الأحزاب تطفو مرة أخرى على السطح، وتأثرت القيادة الكردية بدورها بتلك الخلافات وفقدت مرة أخرى بوصلتها في حسن إختيار الإتجاه السائد في تلك المرحلة للتحالف. فقد تصرفت القيادة الكردية وكأنها هي التي حررت العراق وأنها هي صاحبة القول الفصل فيه، ولذلك وجدنا بأن السيد مسعود بارزاني أصبح يتصرف وكأنه هو صاحب القدح المعلى في تنصيب رؤوساء الوزارات والبرلمان، وفي لحظة شعوره بالغرور المرضي واجه السيد نوري المالكي وكادت أن تتجدد الحرب الكردية العربية حين حشد قواته بمواجهة قوات الجيش العراقي أثناء حكم السيد المالكي. ومنذ تلك اللحظة لجأ السيد بارزاني الى تركيا ليضع كل بيضاته في سلتها بل ومضى في تحالفه السياسي معها الى حد أن تنازل عن ثروة شعبه الوطنية في إتفاق مشبوه يرهن تلك الثروة لخمسين عاما القادمة بيد تركيا.
إن التقارب الذي حصل بين بارزاني وتركيا أضر كثيرا بالعلاقة التاريخية بين الكرد والشيعة، وأضعف روابطهما المشتركة والتي تعود الى سنوات النضال ضد الدكتاتورية البعثية، فحصلت قطيعة شبه تامة بين إقليم كردستان الذي يقوده بارزاني وبين الحكومة الإتحادية التي يقودها الشيعة.ومما زاد الطين بلة هو إستحواذ بارزاني على الثروة النفطية بكردستان وإعتماده سياسة الإستقلال الإقتصادي عن بغداد بهدف سرقة ثروات الشعب الكردي، وأدت تلك السياسة الفاشلة الى إضطرار بغداد لقطع حصة الكرد من موازنة الدولة ما أدى الى الحالة المأساوية التي يعيشها شعب كردستان اليوم في ظل فساد فظيع يضرب جميع مفاصل الحياة،ومعاناته اليومية مع الفقر والجوع والحرمان من أبسط مستلزمات الحياة الإنسانية رغم أن الكميات المصدرة من النفط تكفي لتغطية حاجات الإقليم من الرواتب والأموال اللازمة للإنعاش الإقتصاديي و التنموي، ولكنها تذهب الى جيوب العائلة البارزانية ..
تواردت أنباء مؤخرا بنوايا بارزاني وحزبه للتحالف مع بعض القوى السنية والشيعية من أجل منع السيد المالكي من العودة الى الحكم في العراق بالإنتخابات المقبلة.حيث تشير تلك الأنباء الى إجتماعات ولقاءات جرت مؤخرا بين حزب بارزاني وأطراف سنية وشيعية ناقمة على حكم المالكي من أجل إنشاء جبهة سياسية تحول دون وصول المالكي للسلطة مرة أخرى..وبرغم أننا نسلم ونؤيد حق كل حزب سياسي في إختيار حلفائه والإتفاق معهم، ولكننا متيقنون بأن ذلك التحالف هو نتاج شخصنة الخلافات السياسية من قبل السيد بارزاني. وإلا فليس هناك أي داع لكي يتحالف بارزاني مع قوى كانت هي أو مخلفاتها تقمع شعبه طوال السنوات الثلاثين الماضية، ولعل أخطر ما ورد بهذا المجال هي الإشارة الى تواجد قيادات بعثية في مدينة أربيل معقل حزب بارزاني، فبحسب تقارير صحفية هناكإشارات متعددة بتواجد قيادات بعثية سابقة في أربيل ما يثير الكثير من التساؤل حول وجود " الشيطان البعثي" بيننا وهو الذي قتل وأباد من شعبنا الآلاف والآلاف.
هذه الأخبار إذا صدقت فإن تجربة كردستان ماضية بفضل قياداتها الى الهاوية السحيقة والى إنهيار شبيه بإنهيار ثورته في عام 1975، فتلك الثورة إنما إنهارت لسبب واحد وهو إفتقاد القيادة الكردية الى الرؤية الصحيحة في إختيار الحلفاء وتشخيص الأعداء، فلا أحد يعرف سر هذا الإنجذاب الغريب من قيادة بارزاني نحو تركيا المعادية الى حد العظم لكل التطلعات والحقوق الكردية، وإدارة الظهر للعراق الذي أقر دستوره حقوقا ثابتة للكرد الى حد أن ترضى الدولة بقيادتها من شخص كردي؟.
لقد حذر الدكتور محمود عثمان في كتيب أصدره عام 1977 من تلك التحالفات المشينة لثورة أيلول بقيادة الملا مصطفى البارزاني مع إيران الشاه وإسرائيل والتي قادت الى إنهيار الثورة الكردية عام 1975 ودعا في تلك الفترة القيادة الكردية الى الإتعاظ من دروس وعبر الثورة، لكن يبدو أن القيادة الحالية بزعامة بارزاني لم ولن تتعظ بتلك العبر وهي الأقرب إليها، وكما يقول المثل" من شب على شيء شاب عليه".
التعليقات