وليسمح لي عزيزي القارئ أن أعرض المقال الثاني، لسلسلة آخر مقالاتي، من مفكرة سفير عربي في اليابان، والذي كتبته في 14 يناير من عام 2007، بعد وصولي لليابان ما لمدة العام والنصف.
“وأنا اعمل واتعلم واستمتع بوجودي بهذا البلد الجميل، أخذ مني الكثير من الوقت، لكي أسترجع جرئتي في الكتابه. وقد يتسائل القارئ العزيز لماذا؟ وهل الكتابه تحتاج لجرأة؟ وهل القلم سيف خطير، قد يؤدي أو يقتل؟ أم قصدك قد تلوث عقل أمه، او تلهمها؟ لم اشعر بأنني مؤهل كمبتدئ لأن أكتب عن يابان ما بعد الحرب. فأعتقد بأنني أحتاج للوقت الكافي لمعرفة الشعب الياباني، ولأن اعيش حضارته وثقافته، أقرأ تاريخه، أبحث في حياته السياسية، أدرس اقتصاده وتكنولوجيته وعلومه الاجتماعية المختلفة. وكسفير، هناك متسع من الوقت للتعرف على الناس، من مختلف طبقات المجتمع، مع الفرصة لحضور الندوات والمؤتمرات، وواجب تقديم المحاضرات، وكتابة المقالات، مع متعة القراءة اللامتناهية. كل ذلك يخلق البيئه المناسبة المستمره للحوار البناء، وتعزيز مهارات التواصل، وتطوير أساليب التفكير، وإغناء الشخصية. وفي أجواء اليابان الثقافية والسياسيه والاقتصاديه، لا يمكن فقط تعزيز الذكاء الذهني، بل أيضا ممكن ان يتطور ما يسمى حديثا بالذكاء العاطفي والذكاء الاجتماعي.
وتعتبر اليابان من أفضل الدول للعمل الدبلوماسي، فجميع دول العالم ممثله وبكفاءة. كما أن اليابانيين مهذبون ولطفاء، يقدسون ويستمتعون بالعمل، ويؤدونه بإتقان. كما أن ألتكنولوجيا متطورة، وتعايشها في جميع مجالات الحياة، كما تعيش حياة آمنه ومطمئنه. ويحب اليابانيون الامبراطور ويحترمونه، وهو رمز وحدة البلاد، كما أن جلالته يتجنب الدخول في أية خلافات مجتمعية. ويدعو جلالته السفراء بانتظام في المناسبات المختلفه، بل ويتحاور معهم، وذلك ينعكس على زيادة الاحترام للدبلوماسي في البلاد، كجليس للإمبراطور المقدس. وحين يصل السفير إلى اليابان، يزوره رئيس مكتب البروتوكول الإمبراطوري، ويدعوه لتقديم أوراق الاعتماد لجلالة الإمبراطور، ويشرح برتوكول المقابلة. وفي يوم المقابلة، يستقبل السفير بحفاوة، من قبل رئيس البروتوكول، في محطة القطار المركزية بطوكيو، ويرافقه في عربة جميله، بحصانين، للقصر الامبراطوري. وهناك يستقبله أحد الوزراء، وثم يقدم السفير لجلالة الإمبراطور. كما أن مقابلة الإمبراطور ممتعه ومثيره للإعجاب، لحسن معاملة جلالته وكرم ضيافته، وعمق تفكيره، وأطلاعه الواسع، بالاضافة لبساطته ولطفه.
حين قررت أن أبدأ الكتابة، فكرت أن نتعاون، أنا والقارئ العزير، في حوار، عن أوضاع المنطقه، لنتعرف على مشاكلها وأسبابها، ومعوقات تجنبها او حلها، وعرض تجربة اليابان، ومحاولة مقارنتها مع اوضاع المنطقه، وأيجاد صيغة حوار جميلة، لمناقشة الحلول. وسأطرح الكثير من الأسالة، ارجو بان نفكر فيها معا، ونناقش الرؤى، ونحاول الإجابة عليها، من خلال الحوار، عبر البريد الالكتروني. وارجو أن الفت انتباه القارئ العزيز، بأنني اعتذر مقدما، أن زل قلمي في أدب الحوار، أو طرحت فكرة غريبة معارضة لثقافة مجتمعنا، بل وقريبه من المجتمع الياباني. وارجو ان تكون هذه التجربة غنية للقارئ العزيز والكاتب الصديق.
وسنبدأ هذه الحلقه بموضوع الاهتمام بالموارد البشريه وتطويرها، أي التعليم لأهميته، ولكونه على رأس خطة الحكومة اليابانية الجديدة. فقد كتب رئيس الوزراء سعادة السيد شنزو ابيه، وهو من عائله يابانيه عريقه، فوالده كان وزير خارجية اليابان، وجده رئيس وزراء سابق، كتابا قبل تعينه، عنوانه: اليابان: الأمه الجميله. وقد أهتم بطرح تصوراته لتهيئة اليابان لمرحلة العولمه القادمه. وركز على موضوع التعليم والاقتصاد. ومنذ أن استلم الوزارة الجديده في اكتوبر الماضي لعام 2006 درس خطة التعليم مع الحكومة، وقدمها للبرلمان، وتمت الموافقه عليه بعد حوار عميق. وقد ركزت الخطة التعليمية على الثقافة اليابانية للطفل، تعزيز حبه وأخلاصه لوطنه، وتطوير طريقة تفكيره وتنمية ذكاءه.
ارجو أن يلاحظ القارئ العزيز، مع أن اليابان ثاني أكبر قوة أقتصادية في العالم، وطلابها يعتبرون في القمة في العلوم الطبيعية والرياضات والتكنولوجية المتقدمة، وأول موضوع تطرحه الحكومه ويناقشه البرلمان المعوقات السابقه في التعليم وتطويره، فهل هذا هو سر تفوقهم؟ الاهتمام بالقوى البشرية وتطويرها، أي الاهتمام بالانسان هو سر نجاح اليابان. لن يتوقف الياباني عن أكتشاف الاخطاء في أي عمل ومحاولة الوقايه، والاستمرار في تطويره. ويقولون الذي لا يخطئ فهو الذي لا يعمل، وكلمة المخطئ في اليابان تعني التطوير، تعني ألاهتمام بتقيم العمل، واكتشاف معوقاته، والاستمرار في التطوير لمرحلة ما قبل الكمال. ولا يوجد لكلمة الكمال وجود في اليابان. فكلمة الكمال تعني الموت، فالكمال هو تقيم لما بعد الحياة، حين تتوقف عن العمل، ولا تخطئ، ولا تتطور. اما حينما تكون حيا، تستمر في التطور، وتحاول الوصول لمرحلة ما قبل الكمال، فقد تكون هذه فلسفه يابانيه مهمه للنجاح.
احدى المواضيع المهمة التي تناقش اليوم في التعليم في اليابان، والتي ناقشها البرلمان الياباني هي الشخصيه المستأسدة بين الاطفال والتي هي أحد المشاكل الرئيسية. فالمجتمع الياباني بني على كلمة "اليونيفورمتي" اي التماثل. الكل يجب أن يكون متشابها بمواصفات معينه مدروسه. التعليم يتعامل مع المدرسة كمصنع، يدخل الطفل ويتخرج بمواصفات معينه، يجب أن تكون جميعها متشابهه. لأن المدرسة تعامل كالمصنع، والمدرسيين كآلة بشرية وقد حددت خطة التعليم نوعية المواطن الذي تريد أن تنتجه، بعد دراسات دقيقة. وبعد ذلك درسوا آلية العمل لإنتاج هذا النوع من الطفل، وتوفرله الفرص المتساوية، والنتيجه طبعا يجب ان تكون متشابهه. وفي قائمة الأولويات هي تعزيز لطف وأدب المعامله عند الطفل، الذي سيخلق منه فردا منتجا في المجموعة المنتجة. ويشجع التعليم الياباني عمل الفريق، ويعلمها من خلال حصص حوار دراسيه مدروسه. ويقسم الاطفال في حصص الحوار لمجموعات صغيرة للمحادثة والمناقشة، لتطوير قوة الحوار والعمل الجماعي عند الطفل. وتهتم المدرسة بتعليم الانضباط في الوقت وتقديسه، والاخلاص في العمل وانتاجيته، بالاضافة لتدريب الطالب للاستفاده من الرياضيات والعلوم الطبيعيه والاجتماعيه لحل المعضلات التكنولوجيه والاقتصادية والاجتماعيه.
والجدير بالذكر بان الدولة تهتم بالطفل في بداية حياته أكثر، من بعد تكملة نموه، أي بعد الخامسة عشر. فالحضانه ورياض الاطفال والمدرسة الابتدائيه والمدارس الوسطى توفرها الدولة بالمجان حتى السنة الخامسة عشرة. أما بعد ذلك يتجهه الكثير من الطلبة للدراسة بمعاهد التكنولوجيا أو الكليات ذو برامج لمدة سنتيين. وبعدها يتخرج الطالب ويبدأ العمل في المصنع او الشركة، وطبعا مفهوم العمل في اليابان هو الإنتاجية من خلال التدريب المستمر. كما ينتقل الموظف من دائرة لدائرة كل عدة سنوات، للمحافظه على حبه للعمل، وأكتشاف تحديات جديده للتعامل معها، ولتطوير قدراته المختلفة. وطبعا تهيئ القوى العاملة بطريقه تستطيع القيام بأي عمل مع التدريب المستمر، وذلك استعدادا للتغيرات التكنولوجية وتموجات اسواق بيع البضائع. والطالب الذي يقرر أن يتوجه للدراسة الاكاديمية او التخصص في مجالات التعليم والطب او المحاماة يحتاج ان يكمل دراسته في المدرسة ويتوجهه للجامعه لكليات الاربع او الست سنوات.
وليسمح لي القارئ العزيز للرجوع معي لمشكلة الطفل المستأسد. فالتربية النمطية في اليابان تلزم الاطفال ان يكونوا متشابهين في كل شئ. وتقريبا إذا لم نبالغ جميع اليابان نفس الطول، نفس الوزن، نفس اللباس، نفس اللطف والأدب مع قليل من الخجل والحياء، ونفس الانضباط وقدسية العمل، ونفس طريقة التفكير، ونفس طريقة الحياة. لو أختلف أي فرد فيكون شاذا، وغير مريح للتعامل معه. وهذه تكون مشكله في المدرسة إذا اختلف الطفل عن الجماعه، فيتعرض للاساءه من بعض الاطفال المستأسدين. ومن طبيعة الشخصية اليابانية بأنها لا تحب الإساءة لاحد، ولا تتحمل ابدا أي نوع من الإساءة. والإساءة المفرطة قد تؤدي ببعض الاطفال للانتحار. ومع الاسف هذه حقيقة شائعه في اليابان، وتسمعها كل يوم. وسأترك تفاصيل هذا الموضوع حينما نناقش تعزيز الذكاء العاطفي والاجتماعي.
فلنستخلص من حديثنا بأن اليابان تستثمر في الإنسان، فتهتم بنشأته وسلوكه واخلاقياته في السنوات الخمس الأولى، وبتربيته وتعليمه في المراحل الابتدائية والمتوسطة، وبعدها توجهه ليختار صيغة عمل مستقبله. فهل سنستفيذ من هذه التجربه الغنية بالاستثمار في الانسان والتركيز في التعليم على مرحلة الحضانة ورياض الاطفال، وتوجهه مرحلة ما بعد المتوسطة في تجهيزه لاختيار المهنة."
د. خليل حسن، طوكيو، 14 يناير عام 2007.
سفير مملكة البحرين في اليابا
التعليقات