قليل من المتابعين والمختصين والمؤرخين والسياسيين العراقيين والكرد يعلمون ان تركيا كانت أحد أسباب انتكاسة الثورة الكردية سنة 1975، حيث كشف الرئيس العراقي المعدوم صدام حسين في احد أحاديثه خلال سنوات الحرب الايرانية العراقية معلومة مهمة، وبين ان رئيس الوزراء التركي بولند أجويد في تلك الفترة طلب منه عدم منح كرد العراق الحكم الذاتي وعدم تلبية مطاليبهم والغاء الاتفاق الحاصل بين الكرد وحكومة بغداد المعروف ببيان الحادي عشر من اذار، ومن خلال هذا الاعتراف للرجل الأول بالعراق يمكن لمس الدور اللئيم للنظام التركي المتسم بالخبث والغدر تجاه العراقيين وتجاه الكرد على السواء لان الدور صب ومازال يصب في مسار تخريب وتدمير العراق.

وضمن السياق نفسه معروف لكوادر وأتباع وأنصار الاتحاد الوطني الكردستاني ان عناصر من الحزب الحاكم بالاقليم في فترة السبعينات وبدعم من تركيا وجهت ضربة قاصمة لمجموعة من بيشمركة حزب الطالبانني وهي معروفة بـ "مجزرة هاكاري" حيث تم القضاء على مجموعة خيرة من المناضلين المقاتلين كانت تعد لبداية انظلاق ثورة كردية جديدة في ربوع اقليم كردستان ضد نظام حكم البعث البائد.

ومن يريد ان يتمعن ويتعمق أكثر في مجال الغدر التركي بحق الكرد وحقوقهم القومية والوطنية والمدنية يمكن ان يعود الى الدراسات المتحققة عن الثورات الكردية في كردستان الشمالية والجنوبية والشرقية وحتى الغربية منها وأسباب اطفائها، ويدرك تماما ان احد اسباب الاخماد هو تركيا ونظامها وحكومتها وجيشها واحزابها السياسية بسبب النهج العنصري المقيت المستتب في دستور كمال اتاتورك الذي صنع جمهورية مليئة بالحقد والكراهية والخبث والغدر ضد الكرد والعرب معا، وهذا الشرع غير الانساني المتواصل في عروق أنظمة الحكومات المتعاقبة في أنقرة هو الذي حدى بوزير خارجيتها بالسنوات الاخيرة ان يطلق تصريحه العنصري الخارق القائل "سنحارب محاولات قيام الدولة الكردية حتى وان كانت في أمريكا الجنوبية".

والعراق البلد الأمين الذي استوطن قوميات واديان ومذاهب عديدة ومتنوعة، وحاول دائما ان يستظل بالوئام وان يعيش بالاخاء والتعايش والسلام بين عربه وكرده وتركمانه واقوامه من الكلدانيين والاشوريين والسريانيين، وجاهد من اجل التشارك والتسامح الديني بين جميع اديانه ومذاهبه من السنة والشيعة والمسيحية والايزيدية والصابئة والمندائية واالكاكائية والحقانية وغيرها من الاعتقادات الدينية والمذهبية التي تحترم وبتقدير داخل مكونات المجتمع العراقي، ولكن بالرغم من اصرار العراقيين لقرون وعقود طوال على السلام والتسامح والتعايش القومي والديني الا ان اطرافا اقليمية ومنها تركيا القديمة والحديثة حاولت دائما زرع الفتن فيما بينهم وبث نزعة العنف والحرب فيهم بالمكر والخبث والغدر، ومازال العراقييون بأغلبيتهم وخاصة الكرد منهم يأنون من وطأة الالام والمعاناة والمأسات التي لحقت بهم من تركيا العثمانية ومن أنقرة الكمالية، وكم من تدخل سافر حصل في الشؤون الداخلية العراقية وخاصة في كركوك بحجة حماية التركمان، والغريب ان النظام التركي لا يخفي تدخلاته عن الانظار بل تعمل بوضح النهار ويعلن عنها بتصريحات نارية خارقة للاصول والاعراف الدبلوماسية، وسرقة النفط الكردي منذ سنوات أكبر دليل على الواقع المؤلم المخزي، ويعتقد بعض المراقبين انها أكبر عملية سطو على النفط في العالم، والغريب السكوت المريب لأطراف اقليمية ودولية ومنها الحكومة العراقية عن هذا السطو العملاق.

وآخر ما وصل اليه الغدر والخبث التركي هو الفتنة التي افتعلتها أنقرة حول رفع العلم الكردستاني الى جنب العلم العراقي في محافظة كركوك وفق السياقات القانونية والدستورية وذلك بالتعاون والتنسيق مع مجموعات محلية محسوبة على العراقيين، ويبدو ان هذه الفتنة الجديدة الماكرة عمل من أجلها رجب طيب اردوغان ورئيس وزرائه يلدرم بكل جدية لاشعال النار بين الكرد والعرب والتركمان في مدينة تقطنها أغلبية كردية، وبالتالي مد لهيب النار الى ما بين العراق واقليم كردستان، وتحويل نار القتنة الدينية والمذهبية الطائفية الى فتنة قومية تحرق الاخضر واليابس في كل أرجاء العراق.

وللتذكير تأتي الجهود التخريبية لانقرة لاقتعال واشتعال نار الفتنة في كركوك وفي كل ارجاء العراق بعد فشل ضغوطها وجهودها لافتعال حرب أهلية بين الكرد والكرد في الاقليم بحجة تواجد قوات حزب العمال الكردستاني في

شنكال وهي بالاصل مجموعات ايزيدية دفاعية محلية شكلت بدعم من الحكومة العراقية لحماية السكان والمنطقة من داعش الارهابي.

وبالرغم من قانونية رفع العلم الكردي الى جنب العلم العراقي من خلال القرار الصاددر بأغلبية اعضاء مجلس محافظة كركوك، وحسب ما وضحه بعض الاعضاء الكرد في المجلس فان القرار ضمن ايضا حق الاعتراض على قرار الرفع لدى المحكمة الاتحادية والسلطات القضائية من قبل الكتلتين العربية والتركمانية في المجلس، وهذا يبين مدى شفافية القرار من جوانبها السياسية والقانونية والدستورية، وهذا يعني ان حجم المسألة ليس بهذا الكبر وكل ما ينشر ويذاع مبالغ فيه ولا يعبر عن الحقيقة، وما يساق لها من قبل انقرة وبعض الجهات السياسية المحسوبة على اخواننا التركمان فان دوافعها لا تصب في خانة مصلحة كركوك ولا في صالح أهلها، بدليل ان اعتراض اخواننا العرب من أهل المدينة هاديء ومتزن ولا يبعث على القلق ومشاوراتهم مع الاطراف والاحزاب الكردية تسير بتأني وتروي خدمة لمصلحة الحكومة المحلية وكل المواطنين في كركوك، والتروي الحكيم جاءت من خلال جهودهم الطيبة في تجميد قرار مجلس النواب العراقي العاجل الذي صدر بمنع رفع العلم الكردي في كركوك.

في الختام ومن باب الحكمة والمسؤولية يمكن القول ان العراقيين بعربهم وكردهم تمكنوا من وأد فتنة للنظام التركي بحجة الاعتراض على رفع علم له مسوغاته القانونية في الدستور العراقي الدائم، ولكن هذا لا يعني ان أنقرة سوف تتوقف عن بث فتن اخرى الى داخل المكونات السياسية والقومية والمذهبية العراقية، ولهذا نأمل من الكل ومن جميع القوى السياسية العراقية والكردية التعامل بحكمة وتعقل وتروي مع كل القضايا السياسية التي تهم العراقيين بجميع قومياتهم واديانهم ومذاهبهم بغية حماية البلد من كل مكروه، والله من وراء القصد.

* كاتب صحافي