لطالما تذرع القادة الكرد ومعهم المثقفون والمحللون السياسيون بطبيعة الجغرافيا السياسية كمانع رئيسي لنشوء الدولة الكردية في الازمان السابقة..ورغم أن هذا التحليل يبدو للوهلة الأولى تحليلا طبيعيا خاصة إذا قبلنا بفكرة ضرورة وجود منفذ بحري لحدود كردستان، اضافة الى عامل آخر حال دون تأسيس تلك الدولة وهو وقوع أرض كردستان بين عدة دول وإمبراطوريات قوية ومعادية لتطلعات الشعب الكردي بالإستقلال والحرية، ولكن هذان المانعان يتعارضان تماما مع الواقع حين نجد العديد من الدول التي ليست لها منافذ على البحر ومع ذلك فقد نالت إستقلالها، مثل النمسا وعدد من الدول المنفصلة عن الإتحاد السوفيتي السابق في القارة الأوروبية، وكذلك دول في القارة الأفريقية مثل تشاد والنيجر ومالي وأفريقيا الوسطى وأوغندا وغيرها، وفي القارة الآسيوية،هناك أفغانستان ونيبال وغيرهما.. إذن المانع الأساسي لم يكن ضرورة وجود منفذ بحري بقدر ماكان المانع جيران كردستان من دول وقوميات تعادي الشعب الكردي. وكان هذا العداء القومي هو الأساس في تمزيق كردستان وتقسيمها على أربع دول قوية في المنطقة وهي إيران وتركيا والعراق وسوريا، فذهب القسمين الأكبرين الى دولتين كبيرتين هما تركيا وإيران، وبقي القسمين الصغيرين من حصة العراق وسوريا.

لا نريد الخوض طويلا في الأسباب التي أدت الى تقسيم كردستان والواقع المرير الذي فرض على الشعب الكردي،ما يهمنا في هذا المقال هو ما رددناه طوال تاريخنا القديم من حديث حول أسباب عدم وصول شعبنا الى حريته وإستقلاله وهي أسباب تتعلق بالطبيعة الجغرافية السيئة لكردستان وخضوعها لأنظمة ديكتاتورية تعاقبت على حكم الدول المقسمة عليها كردستان، وما زالت هذه الاسباب حائلة دون تحقيق الحلم الكردي بالاستقلال.

لعل هناك بعض الحق في تردد قوى سياسية معينة من خوض مغامرة محفوفة بالمخاطر بحجم إعلان الدولة الكردية،خاصة مع الوضع المتأزم الحالي في المنطقة وإحتمال صدور ردود أفعال عنيفة ودامية تجاه مثل هذه الخطوة من قبل الدول المعادية المحيطة بكردستان، ولذلك هناك دعوات عقلانية تطالب أولا بترتيب البيت الداخلي الكردي قبل اعلان الدولة على إعتبار أن الوحدة الوطنية ستكون سندا ودعما قويا للقوى السياسية الكردية لتحقيق هذا الهدف.ولكن هناك من يريد التسرع وخوض المغامرة دون حساب تداعياتها ويهمل الوضع الداخلي غير المساعد وغير المهيأ لهذه الخطوة، وقد تكون لهذه القوى أسبابها التي تندرج باعتقادي في إطار الحملات الإنتخابية أو للتغطية على فشل سياساتها. وعلى سبيل المثال نأخذ الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود بارزاني الذي ركز فجأة على هذا الشعار بعد فشل سياساته بإدارة إقليم كردستان..فهذا الحزب الذي خاض أولى ثورات الشعب الكردي عام 1961 تحت شعار اللامركزية الإدارية، ثم تحول بعد سنوات طويلة الى المطالبة بالحكم الذاتي لكردستان، وخاض أول إنتخابات برلمانية بكردستان المحررة عام 1992 تحت شعار الحكم الذاتي،تحول فجأة الى رافع شعار تأسيس الدولة الكردية،وتحديدا بعد إنتهاء ولاية مسعود بارزاني القانونية وإصراره على البقاء في منصبه كرئيس للإقليم،وفشل سياسات حزبه بالإستقلال النفطي وتعطيله للبرلمان وشل الحكومة المحلية، فتم طرح هذا الشعار بشكل مكثف لإلهاء الرأي العام وتضليله بهدف إطالة أمد حكم بارزاني وحزبه. ولعل قراءة واقعية للوضع الدولي والإقليمي الحالي يبين لنا بأن رفع هذا الشعار لايعدو سوى مزايدة سياسية أخرى الهدف منها هو إشغال الرأي العام وإلهائه عن المشاكل والأزمات التي تعصف بالإقليم من جهة، والتغطية على فشل سياسات هذا الحزب من جهة أخرى، وإلا فإن السياسيين والمثقفين الكرد يعلمون جيدا بأن الوضع الإقليمي والدولي الحالي لا يساعد على تأسيس هذا الدولة المزعومة، وأن الإهتمام والدعم الدولي في الوقت الراهن لكردستان لايتعديان تحقيق هدف واحد وهو دفع الكرد نحو الحرب بالوكالة ضد تنظيم داعش الإرهابي الذي بات يهدد العالم بأسره، وأنه ليس في خاطر أي دولة عظمى أو صغرى دعم مثل هذا التوجه الكردي نحو الإستقلال.بدليل أن أمريكا وهي القوة الأكبر في العالم أكدت إداراتها السابقة والحالية بأن موقفها الثابت هو حماية وحدة أراضي العراقية. ومع ذلك فإن حزب بارزاني لايمل من ترديد هذا الشعار وإستخدامه لتضليل الرأي العام.ولو تمعننا في الموانع الأساسية التي حالت سابقا دون نشوء الدولة الكردية، فإن تلك الموانع مازالت قائمة لحد الآن، بل وأضف إليها عاملا آخر، وهو تأزم الوضع الداخلي بكردستان. فهذا الحزب أوصل إقليم كردستان الى شفير الهاوية من النواحي السياسية والإقتصادية والإجتماعية والقانونية.

فمن الناحية السياسية كرس هذا الحزب لنظام ديكتاتوري بهوية الحزب القائد الواحد الأوحد وهو حزب بارزاني الذي يمسك بجميع المفاصل الأساسية للإدارة وهي رئاسة الإقليم والحكومة ورئاسة الجهاز الأمني وقيادة قوات البيشمركة ومجلس القضاء، بالإضافة الى معاداته لكل الأحزاب الرئيسية الأخرى التي لها تمثيل برلماني ونالت ثقة الشعب. فعلاقته مع شريكة الأساسي الإتحاد الوطني يمر بأزمة كبيرة بسبب تمسك بارزاني بمنصبه كرئيس للإقليم على رغم إنتهاء ولاياته القانونية وتفرده بقيادة الإقليم..وعلاقاته مع حركة التغيير وهي ثاني قوة برلمانية تمر بأحلك أيامها حتى وصل الأمر الى تجريم رئيس الحركة والسعي لمحاكمته بالاضافة الى طرد رئيس البرلمان ووزراء الحركة من أربيل..ومع الجماعة الإسلامية هناك كره شديد من حزب بارزاني تجاهها، أما مع الإتحاد الإسلامي فهناك حملة إعلامية مكثفة ضده من حزب بارزاني،هذه هي القوى الأساسية بالإقليم التي يعاديها حزب بارزاني، ولم يبق لدى هذا الحزب من أصدقاء أو حلفاء غير بعض الأحزاب الكارتونية التي لاتعدو سوى دكاكين حزبية أنشأها هذا الحزب بأموال النفط المسروق لتجميل صورته أمام العالم.

ومن الناحية الإقتصادية فإن سياسة الإستقلال النفطي قاد الإقليم الى كارثة حقيقية أدت في المحصلة الى قطع رواتب الموظفين من بغداد، وعجز حكومة الإقليم عن دفع ربع رواتب موظفيها،بالإضافة الى إغراق الإقليم تحت ديون تفوق 20 مليار دولار، ناهيك عن إستشراء الفساد بشكل غير مسبوق في جميع مرافق الحكومة.

ومن الناحية الإجتماعية فقد أفرزت الحالة المعيشية المتردية عن جملة من المشاكل الأسرية منها إرتفاع نسب البطالة وإرتفاع نسب الفقر والطلاق والتفكك الأسري.

أما من الناحية القانونية فإن القضاء أصبح مسيسا وألعوبة بيد السلطة البارزانية حتى جرؤ مجلس الشورى وهو مجلس إستشاري غير تشريعي لينوب عن البرلمان بإطالة أمد رئاسة الإقليم الى مالا نهاية دون سند قانوني وتفويض بارزاني المنتهي الصلاحية للإستمرار بمنصبه دون أية قيود وبكامل صلاحياته رغم إنتهاء مدة ولاياته القانونية.بمثل هذا الوضع الداخلي المتأزم يسعى حزب بارزاني الى تسويق شعار الدولة الكردية المستقلة ويحاول تضليل الرأي العام الداخلي.

هناك تكهنات بموافقة تركيا الاردوغانية على إنشاء الدولة المزعومة برئاسة بارزاني، وحتى لو إفترضنا أن تركيا دعمت تشكيل هذه الدولة المزعومة فإن هذا الموقف ليس من أجل خاطر عيون الكرد، بل هو من أجل الإستحواذ على الثروة النفطية الكردية التي ستقع ضمن هذه الدولة، وكذلك لتحقيق أطماعها بإستعادة ولاية الموصل بضمنها محافظة كركوك وثروتها النفطية الهائلة ، وبذلك فإن تركيا لن تخسر شيئا حين توافق على إنشاء ولاية كردية تابعة لها جنوب حدودها بقيادة بارزاني الذي ربط مصيره بحزب أردوغان الفاشي، وعليه فانني لا أتوقع أن تتعدى الدولة المرتقبة شكل ولاية كردية تابعة لتركيا ولن تتجاوز حدودها محافظتي أربيل ودهوك الخاضعتين لسلطة بارزاني. فإذا كان هذا هو حلم بارزاني فلتكن الامارة مباركا عليه، أما إذا أراد أن ينشيء فعلا دولة كردية محترمة تحظى بإحترام وتقدير دول العالم فينبغي عليه أولا أن يسعى لترتيب البيت الداخلي الكردي وأن يتصالح مع جميع القوى السياسية ليكون الشعب برمته خلفه لمواجهة التحديات التي قد تواجه تأسيس الدولة الكردية القادمة.