سبق و أشرنا في مقال لنا بهذا المنبر وغيره، أن الرئيس الأمريكي "ترامب" لا يحمل للمنطقة العربية إلا مزيدا من سفك الدماء و تشريد الأمنيين و تجزئة المجزأ، و مع ذلك فالحكام العرب يهرولون باتجاهه و يحرصون على إرضائه، و أخر ما صدر عن إدارته هو ضرب سوريا بالعديد من الصواريخ و الترويج لتقسيم ليبيا كخطة لإعادة الأمن و الاستقرار بهذا البلد...
كلا الحدثين على درجة كبيرة من الخطورة، فاللجوء للقوة في سوريا و غيرها من البلدان العربية أمر محزن و لا يسهم إلا في مزيد من العنف و العنف المضاد وتغدية خزان العنف بالمزيد من الدخائر، فعنف أمريكا مرفوض و نفس الأمر ينطبق على العنف الروسي و الايراني و عنف النظام السوري في حق شعبه، و هو المولد الأساس لهذه الدائرة المفرغة من العنف و الدماء و الأحقاد، و لن يقود هذا التوجه الدموي إلا لتقسيم البلاد العربية إلى مناطق نفوذ للقوى الأجنبية،و إجهاض أي حلم في الاستقرار و الأمن و التنمية في إطار وحدة الأوطان أولا، و لما لا وحدة الإقليم مستقبلا. وهو الأمر الذي يدفعنا لطرح سؤال مركزي لماذا وصلنا إلى هذا المنحدر السحيق؟
ما تعيشه المنطقة العربية اليوم هو نتاج طبيعي للاستبداد السياسي بالدرجة الأولى، فالفرعونية السياسية والحكم الفردي دمر المجتمع العربي كله، و أصبحت حركات المجتمع و سكناته تدور في فلك الحاكم المستبد و بطانته... لست من الذين يحبذون اللجوء لتحميل مسؤولية التفكك و التخلف إلى الخارج و للقوى الامبريالية و المؤامرات الأجنبية، فالمسؤولية الأساس تقع على عاتق أنظمة الحكم التي قمعت الحريات و رسخت للخلافات بين مختلف مكونات الشعب الواحد...ما تعانيه المنطقة هو نتاج طبيعي لعقود من احتكار السلطة، و من نهج سياسات مزاجية وانعدام المساءلة...
فحصاد حوالي نصف قرن من خروج المحتل الأجنبي – الفرنسي أو الانجليزي – عن معظم البلاد لعربية لم يكن إلى كومة من الإخفاقات و الهزائم المتتالية، فمعظم البلاد العربية اليوم تعاني من أزمات خانقة، وإن كان بعضها يعتقد بأنه بعيد عن حزام الأزمات بفعل توفر "السيولة النقدية" أو "السطوة الأمنية" فهو واهم، فمعظم البلاد العربية تعاني من نفس الداء فالاستبداد السياسي و احتكار السلطة و انعدام الفصل بين السلطات، و غياب الحدود الفاصلة بين التجارة والسلطة كلها عناصر تدعم انفجار الأوضاع و لو بعد حين...
و الغريب في الأمر هو استمرار أنظمة الحكم على نفس المنوال بالرغم من انفجار الأوضاع ببلدان الربيع العربي، بل هناك تسويق و تضخيم لهذه المشاهد الدموية و للفوضى، بغرض إخافة باقي الشعوب العربية من شبح الإرهاب و العنف حتى لا تطالب بتحررها و انعتاقها من العبودية والاستبداد، لكن الذي ينبغي أن نوجه إليه انتباه القارئ العربي، أنه لا مفر من دفع ضريبة الحرية، فالاستبداد السياسي يعيق تشكل مجتمع مدني متماسك و منسجم، بل إن عجز المجتمعات العربية و فشلها في تحقيق الأمن والاستقرار و التقدم راجع بالأساس إلى الكلفة العالية للاستبداد...
فالاستبداد يوجه موارد المجتمع في غير محلها، و يغلب المصالح الشخصية والفئوية لداعميه على حساب مصلحة المجتمع و مطالبه، بل إن حالة العنف الذي تشهده العديد من البلدان العربية المستفيد منه هو الأنظمة العربية الاستبدادية بالدرجة الأولى، فهي من تستفيد من تشويه صورة الإسلام بغرض ضرب حركات الإسلام السياسي المعتدلة، والتي لها تجذر حقيقي في ضمير الأمة، نعم البلدان الغربية بدورها لا تريد أنظمة ديمقراطية في المنطقة، لكن إذا بدأت شرارة العنف تصل إلى أراضيها في شكل أمواج من اللاجئين أو عمليات عنف في أراضيها فهي دون شك سوف تقبل بالديمقراطية، لا سيما وأن الديمقراطيات لا تحارب بعضها، و أن الغرب يستطيع حماية مصالحه مادام أن التجارة في مصلحة الجميع...
ما ينبغي استيعابه اليوم من قبل شعوب المنطقة، والقوى الحية على اختلاف طيفها السياسي، أن استمرار الخلافات البينية هو تدمير للمجتمع العربي و ترك السلطة و القرار بأيد أنظمة فاسدة تقود الإقليم إلى مزيد من التفكك و العنف، و التواطؤ مع أجندة ترامب الغرض منه المحافظة على مكاسب الحكام بالدرجة الأولى.
القادم من الأيام لا يحمل لأهل المنطقة إلا المزيد من الدمار و التفكك، نتمنى من كل القوى الحية بالبلاد العربية أن تتسامى عن خلافاتها و تبحث عن القواسم المشتركة و لعل أهمها حقن دماء أبناء المنطقة..، و أن تدرك أن التحالف الأسود القائم بين الاستبداد العربي و الامبريالية العالمية بكل أطيافها، لن يترك من هذه المنطقة شيئا، فالأمل بغد أفضل مقرون بالمقاومة السلمية والعصيان المدني و الخروج إلى الشوارع و الميادين و عدم الانسياق للعنف، بغرض إلزام الأنظمة الفاسدة عن ترك السلطة أو التراجع عن غيها..
فكل البلاد العربية مهددة في القادم من الأيام بالتفتيت و العنف -وليس فقط سوريا أو ليبيا أو اليمن..-، ولم يعد من الممكن الاستمرار في تحمل فاتورة الاستبداد التي كلفت الكثير من الدماء و الموارد، كما أن الوحدة بين مكونات البلد الواحد من جهة، و مكونات باقي الإقليم من جهة أخرى، يبقى البديل الأكثر فعالية لإعادة هيكلة هذه المجتمعات التي أنهكها الاستبداد و سوء التدبير...و الله غالب على أمره...
*إعلامي مغربي و أكاديمي متخصص في الاقتصاد الصيني و الشرق آسيوي.
- آخر تحديث :
التعليقات