كثرت في الاونة الاخيرة دعوات وأقاويل غالبيتها غير متّزنة ؛ فحواها ان مايجري بنا من انحدار حضاري وتخلّف بلغ مبلغا خطيرا من السوءات وخطل الرأي وضيق الافق حتى وصلت الى النزاعات التي تفاقمت وملأت الارضَ دماء وإعاقات وتهجير وحروب دائمة ، هذه الدعوات تشير علانية بان الدين السائد بيننا هو السبب الرئيسي في تلك الحالات المؤسفة التي نعيشها ؛ وما علينا لو أردنا الصلاح والسلام والتقدّم الاّ ان ننفض ايدينا منه وننزع تلك الجلابيب المتهرئة التي ألبسونا إياها مكرهين .

مثل هذا القصور الفكري اخذ يتسيّد الشارع العربي والاسلاميبقوة خاصة عند شريحة الشباب وهم الاكثر عددا والاقلّ عدّة من أدوات العقلانية والأشد ضررا بما يجري في وسطنا المليء بأسقام اجتماعية وسياسية واقتصادية وفقدان كل مقومات التحضّر والنماء والرقيّ التي تحفل بها المجتمعات الاخرى التي نهجت منهجا مغايرا وحسّنت من حالاتها العقائدية وشذّبت افكارها واقتلعت أدغال ومواقعالدمن وغصون القومية اليابسة والمباهاة العقائدية بسبب منابتها غير السليمة حتى وان بدت زهورها جميلة الشكل والطلعة لكن سمومها قاتلة مدمرة .

لا ننكر ان هناك من الفئات المنتفعة والحركات السياسية ذات الطابع الديني قد عملت على تدوير الدين لصالح أجنداتها السياسية واستغلاله وفقا لرؤاها خاصة اننا نعرف مدى تغلغل وتأثير النزعة العقائدية ذات الأثر الفعّال في تغيير مسالك الانسان الفكرية ؛ ومَن غير الدين له مفعول السحر والجاذبية في اللعب بعقول العامة !!

هنا لابد من عقلنة الدين وتخليصه من الكثير من المرويّات والأحكام المفروضة مما نسميهم السلف والطقوس الدخيلة والانقياد للنخب الدينية على عواهنهم ونبذ الأسانيد الهشّة ودبق الفكر الضار حتى لايصار بيد مجموعة من ذوي الاجندات المؤثرة في الانسان المتدين التقليدي ويصبغونه بصبغتهم الخاصة ، وأول سمات هذه العقلانية انها لاتكون مطاعة من هذا وذاك ولا تتسم بانها طيّعة تتشكل كيفما يشاء الذهن المتأسلم .

فالمتدين العقلاني من الصعب ان يكون إمّعة لهذا الطرف او ذاك لايركض مع الغوغاء ولا ينغمس مع الدهماء مع انه لايعتبر نفسه صاحب الحقيقة وانه امتلكها كلها ، بل هو احد طالبي الحقيقة والساعي نحوها وانه لا يسعى وحده لنيلها بل هناك اخرون مثله في سعي دائب نحوها وقد يجاريهم ويتفوقون عليه بحثا عنها وبذلك يفتقد حالة النرجسية الدينية ويعتبر غيره مثيلا له ولا يعاديه وربما يسايره اخذا وعطاء وتبادل معلومات لكن دون تسليم أعمى وانجرار غوغائي إنما تديّن قائم على التفكير النقدي يعمل على تجديد وفرمتة العقل وتحقيق الانسجام بين العقيدة والعقل المفكّر .

ومثل هذا الاعتقاد الديني المتزن لايسير ولا يتبع هوى الطقوس المفتعلة التي يضفي عليها رجال الدين المغرضون زيادات واهية من المراسم الدخيلة ظناً انها تعزّز وتقوي أسس العقيدة بينما هي في الحقيقة تسيء اليها وتكون عامل هدم وهوان وارتخاء على المدى القصير والبعيد معاً .

هنا لابد من حفظ السمات الحقيقية للعقائد ومعرفتها من منبعها ومصادرها الاولى بعيدا عن الملوّثات التي تلتصق بها أمدا بعد أمد وعدم الخضوع لها وغربلة الدين من الشوائب العالقة على ان يقوم بهذا الفعل عيّنة نزيهة من نخبة المتدينين العقلانيين الذين نرى فيهم الايمانالخالص من درن المنافع وسلالم الصعود الى الجاه السامي والرفعة الكاذبة والاكتناز بواسطة العقيدة فلا يهم هؤلاء الزمرة المنتفعة المسيئة ان تكون القناعات العقائدية ذات نقاء او شوهاء بقدر مايهمهم كم من الوجاهة والنفوذ والغنى والحصانة ستلتفّ عليهم وتعزز حياتهم الباذخة على حساب المخدوعين والجهّال والإمّعات والسطحيين التقليديين وعميان البصر والبصيرة .

والحق ان الايمان الان أخذ وجهين ظاهرين للعيان ، وجها ابيض ناصعا ووجها مائلا للاسوداد مع بقع صغيرة بيضاء هنا وهناك وما على المتدين العاقل الا ان يختار الأنصع والأكثر إشراقا للاستئناس بجمالية الدين والشعور بالراحة والاطمئنان والسكينة وعدم الركون الىالقشور العالقة فيه والسطحية التي عبثت به عقول التخلف سواء كانت عمدا أو عفوية .

فمن يشذب عقيدته ويمسك زمام العقلانية في تديّنه محال ان ينجرّ نحو التعصب الاعمى ويبقى عقله طريّا غير متحجّر كارها التسليم والانقياد انقياد المواشي ويتعامل تعاملا طرديا مع الزمكان الذي يعيشه فاتحا صدره لنسائم الغير منفتحا على عالم يعجّ بعقائد مختلفة اصولا وفروعا دون كراهية او مقت يصل الى حدّ إشهار العداوة والبغضاء على المخالف وان لم يكن يسايرهم في قناعاتهم الفكرية وانما يحترم دواخل النفس ويفهم الحاجات الروحية للاجناس البشرية عموماً .

يقينا ان كل من انجرف نحو التعصّب والنرجسية الدينية وهاجس التفوق واتخذ من التحجر منهجا ثابتا دون النظر الى الضفاف الاخرى يتصورون واهمين انهم اصحاب الحقيقة والمرضيّ عنهم أرضا وسماء وكل ماعداهم في ضلال مبين وهذه المنزلقات ليست عقلانية دينية بقدر ما هي انجرار وتبعية ومسايرة الهوى وانصياع لهذا التيار او ذلك الدعيّ دون ضبط النفس بلا مراجعة العقل والوقوف على الحقائق المحضة الخالية من الشوائب والاستناد على الادلّة او غربلة ما لصق بها مما ليس منها ، لأن التديّن العقلاني يرافقه دوما تفكير نقدي ومراجعة صارمة لما قد يشوبه من عوالق ضارة وأخطاء قد تودي به الى ان يكون منجرّاً وساذجا وتابعاً ذليلاً طيّعاً فيفقد عقلانيته ويمارس أخطاءً لم تكن فيه قبلا وربما ينحو نحو الطائفية والنرجسية والتعصب وتتفاقم فيه العيوب والاستسلام للقناعات حسناتِها وسيئاتِها وتزيد مؤشرات التدهور فتضيع بوصلته واتزانه ويبدأ بالتحجر طالما لا يسقى بمعين النقد والمراجعة ولهذا نؤكد على ضرورة الممارسة النقدية والمراجعة السليمة كلما تطلب الامر ذلك .

والشيء المحبب عندي في توصيف المتدين العقلاني انه يخرج وينفلت من سيادة الغير الى سيادة الذات وهذه الذات دائما ماتكون متّزنة راقية مشذبة ، ففي مراحل التدين وبداياته تبرز التقليدية والتبعيّة واضحة للعيان ويؤدي طقوسه بعفوية الدهماء دون ان يعرف الحكمة والجدوى من ممارستها ويظل بهذا الشكل من الانجرار حتى ينضج المؤمن عقلا وقلبا معا وشيئا فشيئا بعد رسوخ عقيدته العاقلة ، ونتيقّن انه لا ينهار امام النزوات العابرة معتمدا على عنصر ضبط النفس والسيطرة على الميول والرغبات التي تعصف بالانسان بين حين وآخر فتتطهر روحه من نزعات المحاباة والمعاداة ويقترب كثيرا من الصفاء والنقاء بما يشابه التوجه الصوفي في حالة الخلوص والسمو الروحي والتطهير من كل شوائب الدين الشائعة في عالمنا المكفهرّ بالعداوات والمنازعات التي قد تصل الى حالة القهر والاضطهاد والحيف والثأرية وتمتد الى ما لايحمد عقباه في انتشار المظاهر الدموية والمجازر والفناء التام لبعض المجموعات البشرية التي تحسب على انها منحرفة وشاذة ومن الفئات الضالة المضلّة احيانا فتكون ضحية أسافل عورٍ لاتبصر الاّ جهة واحدة وتلقى ما تلقى من العنت والمهانة والتنكيل قتلا واضطهادا وتهجيرا ونزوحاً وتشرذما لمجرد اختلافها في الرؤى ووجهات النظر .

وتبقى نقطة اخيرة جديرة بالذكر هنا مما يتصف به المتدين العقلاني وقد تكون من ابرز الصفات التي تلقى احتراما وتقديرا كبيرين وهي النزوع الانساني العميم عابرا الحواجز القومية والعرقية والتمييز بين الناس على اساس اللون والجنس او العنصر والمضائق الوطنية والمذهبية وكل ما يشير الى الفئوية فمن تمسك بعقلانيته يعشق كل البشر العائش في هذا العالم وكل انسان جدير بالرعاية والمحبة والمساعدة لو اقتضى الامر دون الالتفات الى قناعاته العقائدية .

كما ان من يتجه الى هذا المنحى يعلّق قلبه بالله وحده دون الاهتمام بمن يدّعي تمثيل الله من البشر موتى كانوا ام احياءً ويتحاشى الوقوع في برائن الوثنية واتخاذ الائمة وما يسميهم المعصومين سلالم يرتقي بها الى التقرّب من الخالق او التبرّك بالاضرحة والمزارات الدينية اوالهيام بالحجابات والادعية المزيّفة وخرق الاقمشة السوداء والخضراء والرايات وتعليقها في الاماكن العالية تبرّكا فهذه الشعائر الدخيلة المشوهة والخاطئة مبعث نفور تهدف فيما تهدف الى جعل العقائد تنحصر في الصنمية وتميل الى التوثين وخلق واسطة مفتعلة لاتنفع الاّمبتكريها المنتفعين ممن استغل سذاجة الناس للاثراء ومدّ النفوذ وفرض موبقاته وتلويث العقيدة باللاعقلانية كمن يضع دغلا ضارا ومنابت سامة في روضة غنّاء بحيث يفقدها نضارتها .

وهنا على المؤمن العقلاني ان يزيل من رحابة ايمانه كل الالهة المزيفة والعقيمة ويشذب جنان معتقده مما علق بها من وعث غبار طارئ وايّنبت هجين يزاحم أطايب وثمار العقيدة السليمة .

ليس عيبا ان نلوّن الدين بأزاهير المعاصرة وتشكيله في نمط جديد حداثوي طالما رسخ كحاجة ضرورية في النفس الانسانية ؛ وما المانع من نزع قشور علقت به وتنظيف سطحه جليا لأظهار لبّه وعمقه النظيف غير الملوث والتمرد على التقليدية وحالة العمى والانصياع غير المدروس وإحداث نقلة نوعية لإعمال العقل وتدوير ماكنة العقلانية كي يلاحق سمات المعاصرة ويألف الأنماط الجديدة ويرفض التسليم الأعمىللنصوص والأحكام ما سلف منها وما خلف مما صنعه رجال الدين الأسلاف والاخلاف جيلا بعد جيل من اجل إشباع اهوائهم وتغطية منافعهم من الكسب السريع عن طريق المتاجرة بالدين ويا لها من متاجرة لاتحتاج رأسمالاً سوى حذلقة اللسان والخطابة المؤثرة العالية الصوت والترغيب والترهيب والإضافات الناعمة لأستجلاب الغوغاء والرعاع مما سبّب في الآخر ازدياد العوالق والشوائب ونفور الناس من العقائد كلها ظنا منهم انها سبب رئيس للتخلف والتراجع مقارنةً بالامموالشعوب المتحضرة .

لذا يتحتم علينا عاجلاً لا آجلاً تحديث الدين ونقله من التقليد الىالعقلنة ومن المعاداة الى المحاباة ومن التقادم الى العصرنة ترويضا ونقلا من التحجّر سعياً سريعاً الى ترطيبه بمعين الحداثة وإضائتهبمصابيح التنوير ، ومن المعيب ان نبقى نحشو أدمغتنا كلساً يابساً وننتظر جنّة عرضها السماوات والارض وهنا في معمورتنا تُزرع جنات وارفة تهب لك ما طاب من الفاكهة والثمار وما تشتهي النفوس ، ونبقى نعلق خيالنا ببراق الاسراء والمعراج وغيرنا يعتلي معراج " البوينغ " وتطير به في الفضاء وتنقله أينما يريد وحيثما يحلّ ويمكث ، وأشياء كثيرة لاتعدّ ولا تحصى ؛ كما تخلفنا الذي لايحصى في كمِّ سوءاته وأوهامه الخادعة .

 

[email protected]