وفق تعريف الموسوعة الحرة مع شيء طفيف جداً من التصرف أن الأنتلجنسيا هي النخبة المثقفة في المجتمع، النخبة التي تشكل طبقة اجتماعية تشارك في الأعمال الذهنية في أي مجتمعٍ كان من المجتمعات البشرية، حيث يكون هدفها الرئيس هو التوجيه والنقد ولعب دور قيادي في تشكيل ثقافة المجتمع وسياسته.
ولكن لعل واحدة من أبرز المفارقات في حياة الكثير من المنتمين إلى النُخب الثقافية في الشرق، أن المنتمون إليها في دواخل ذواتهم يرون بأنهم أهم من كل قادة الرأي الآخرين، أي أنهم أبدى من الساسة ورجال الدين ووجهاء المجتمع؛ ولكن المعضلة أنهم غالباً ما يعتصمون بالصيت من دون تحمل أعباء فعل صاحب الصيت، وربما من دون تمثل القيَم التي انوجدوا من أجلها، وبالتالي تخليهم أو تقاعسهم عن أداء الدور المنوط بهم في المجتمع الذي يرون بأنهم الأولى بقيادته، كما أنهم يعرفون معظم إن لم نقل كل شيء عن الحريات السياسية والفكرية الدينية والاقتصادية وآليات ممارسة الديمقراطية في الغرب، ولكنهم غالباً ما يبقون تلك المعارف معلقة في سقف التمنيات أو التنظير اللفظي أو الكتابي، وممارستهم لتلك المفاهيم تنحصر في وقت إطلالتهم على الجماهير عبر الوسائل الإعلامية على اختلافها أو عبر المنابر الثقافية على الأرض والندوات الجماهيرية، ولكن عند المحك ومقاربة منطوق الواحد منهم بسلوكه المعاش يغدو بعضهم إما منافق بامتياز، أو يصبح كائن أملس متملص وغير قادر على اتخاذ مواقف شجاعة خوفاً من أن يفقد امتيازاته من الجهة التي سيوجه إليها إشاراته السلبية، والوقائع تشير بأنه إذا ما صودف واقترب بعضهم من أبواب السلطة أو شم رائحة المنافع الشخصية أو ساعدته الظروف ليكون من طاقم النظام السياسي للبلد، فغالباً لن يكون وضعه أفضل من وضع السياسي الفاسد الذي يبقى جل وقته مشغولاً بالاستحواذ على المناصب أو جمع الثروات، حيث أن مغريات ومنافع السلطة تفسده بسرعة وتحوّر حتىّ بمفاهيمه، وبهذا الخصوص فمَن تابع التطورات المتلاحقة في الإقليم ربما لاحظ حدوث ذلك الأمر مع أحد كبار الليبراليين في إقليم كردستان، فالرجل فضّل منافعه الشخصية على ما كان يؤمن به، وذلك عندما تقاطعت مصالحه مع مصالح من هم جزء من الخراب في الإقليم، بل ولأجل الامتيازات اللاحقة بناءً على اصطفافه الجديد اقترب من أبرز التيارات السلفية في الإقليم، تلك الفئة التي لو سمحت لها الظروف بأن تتغلغل وتتبوأ سدة الحكم لحوّلت الإقليم برمته إلى أفغانستان!.
علماً أن المثقف الحقيقي يجب أن لا ينشغل بالسلطة، ومن غير اللائق به أن يكون متسولاً على أبواب الساسة، إنما عليه أن يكون كالعلماء التاريخيين الأُباة ممن لم تكن لتُشترى ذممهم أو تُرخص نفوسهم أمام سلطان المال والمناصب، وأن عليهم أن يكونوا قادرين على أن يقولوا كلمة الحق أينما حطوا رحالهم، وأن يناصر واحدهم العدل ويعادي الجور في منزله، وفي أيوان حزبه، وفي خيمة عشيرته قبل أي مكانٍ آخر، وإلا فإنه مجرد شخص جامع للمعلومات وحافظاً للنظريات المعرفية كأي نفر آخر من العامة، ونحسب أن تلك النماذج لا تحتاج المجتمعات إليها إلاّ كواجهات ثقافية اكسسواراتية أو كأوعية للمعلومات.
أما بخصوص البنية المجتمعية في إقليم كردستان فلا جدال أن البيئة الاجتماعية هناك لا تزال تحتفظ بالكثير من الأمراض التي لها تأثير مباشر على الجانب السياسي، وبالتالي على مستقبل الإقليم ككل، ومشكلة نخبة ذلك المجتمع أنها لم تستطع زرع فكرة أن الولاء للأرض أبدى من الحزب والعشيرة والمذهب، ومن ثم إقناعهم بمناصرة وإشاعة مبدأ العدل والحق والإنصاف، ولا نبالغ إذا قلنا بأن مجتمعاتنا الشرقية عامةً، وإقليم كردستان على وجه الخصوص ربما كان بحاجة إلى القيم الإنسانية والمفاهيم التي وضعها فلاسفة الاغريق أكثر من كل ثقافة أوروبا الحديثة، أقول الثقافة ولا ألمِّح إلى الجانب التكنولوجي، لأن الوقائع تشير بأن الكثير من المثقفين الشرقيين أخفقوا حتى على مستوى تمثل الحكمة الاغريقية، تلك الحكمة التي ولدت قبل أكثر من ألفي عام، وهنا نرى السؤال الحرج وقد أطل برأسه قائلاً: يا ترى هل مَن لم يستطع أن يجعل من تلك البديهيات خبزاً في متناول الناس وبالتالي سلوكاً يومياً لدى عامة الملة، أسيكون قادراً على أن يُقنعهم بمفاهيم الديمقراطية الحديثة؟ وما الفائدة أصلاً من الترويج لناطحات السحاب فيما المواطن عاجز عن أن يتكيّف مع شقة في بناءٍ بسيط؟ لأنه من خلال قراءة الواقع الكردستاني في الأعوام الأخيرة وخاصةً في الفترة التي سبقت عملية الاستفتاء وبعدها تبين للمُعاين لحال ذلك المجتمع أن الأمراض الاجتماعية المزمنة وبدائية تفكير الكثير منهم تجعلهم غير قادرين إلى الآن على الفصل بين أخطاء القريب ومكائد الغريب! بين عثرات المسؤولين المحليين وبين خساسة مواقف الدول المحيطة بالإقليم، بين حسد الخلان وبين الحقد الدفين للجيران تجاه كل ما هو متعلق بالهوية القومية لسكان الإقليم!.
وفي هذا الجانب من كل بد أن اللوم لا يقع على عاتق السياسيين ومؤسسات الإقليم فحسب، ولا على أئمة الجوامع فقط ممن يبقى محور خطاباتهم حائماً حول الآخرة وملحقاتها، إنما اللوم يقع على عاتق الأنتلجنسيا ومن في حكمهم ممن يفضلون تسمية أنفسهم بالمستقلين أو الأحرار أو الحياديين، الذين أخفقوا في إفهام الجماهير بأن كردستان كأرض وشعب أهم من كل الكتل السياسية والأطر الحزبية والولاءات العشائرية، ولكي لا نعمم الحكم فبالرغم من أن بعضهم كان ذا رأي واضح وعبّروا بشموخ عن مواقفهم مما يحاك ضد الإقليم من الداخل والخارج، وعلى سبيل المثال وليس الحصر، كفاح محمود، فرهاد بيربال، جلال زنكبادي، إلا أن كثيرهم وفق تصورنا الشخصي كان حالهم كحال أي نفر حزبي أو عشائري فلم يستطيعوا أن يتجاوزوا انحيازات العامة في مجتمعهم، وبدا كأن جزء منهم غير مناهض أصلاً لتلك الأسقام، وصحيح بأن لتلك الفئة الحق في أن تعيش حياة كريمة اسوةً بالساسة وعامة الناس، ولكن عليها أيضاً أن تكون رائدة وفي المقدمة حين تحل المصائب على المجتمع، وكما تشتكي تلك الفئة ليل نهار من الظروف الاقتصادية، فعليها أن تكون مشغولة قبل الشكوى التي هي لسان حال العامة بقضايا الوطن ككل أكثر من إنشغالها وبحثها عن منافعها، وإلاّ فما الفرق بينها وبين الدهماء إن أخذتهم الأهواء اليوم، وجاءت بهم المنافع غداً؟ والمتابع يدرك تماماً بأن تلك الفئة كانت شبه غائبة في أحلك فترة تعرض لها الإقليم منذ سنوات، فمنهم من كانوا بحق إما بسوية العامة في كل النواحي ولا تمايز عن الدهماء في أي شيء، ومنهم من كانوا متخاذلين ومتقاعسين عن أداء ما يتوجب عليهم القيام به، وحيال ذلك قيل أن منهم مَن بالأصل لا قوة تأثير لديهم على المجتمع، وأن هوبرة خطابهم الفوقي والاستعلائي، والتباهي المعرفي لديهم لا يظهر إلا عند الرغبة في نيل المكاسب أو حين الرغبة في إبراز نرجسيتهم في المحافل الاجتماعية أو من خلال المنابر، وأن جل علومهم ومعارفهم غير قادرة على أن تغيّر ولو رهط من الناس في الشارع الذي يقطنون به، أو في الحي الذي يسكنونه، أو في المدينة التي ينتمون إليها، وأن لا وظيفة لديهم غير التلويح في المقاهي بمساوئ النخبة السياسية، وذلك في إطارين: أحدهم إطار النقد من أجل النقد، والإطار الثاني هو النيل من السياسي لأنه يحتل مقاماً كان المنتقد النخبوي يرى نفسه بأنه أولى منه بتبؤ ذلك المقام؛ ما يُفهم منه بأن التلويح بمقابح الساسة ليس الهدف منه تقليصها أو تطهير بدن السياسي منها، ولا لأجل صلاح الحُكم والسعي لإحقاق الحق وإشاعة مبدأ المساواة والإنصاف، إنما لا يكون النقد عندئذٍ إلاّ لأغراض شخصية صرفة تتعلق ببروز الأنا، أو بالسعي لنيل المكاسب، أي ليس للعامة نصيب من تذمره وامتعاضه وانتقاداته، وهنا إن صح ذلك القول فتكون تلك النخبة وقتها عالة على المجتمع، وليست بمثابة الشعلة التي عليها إنارة دروب الناس، ولا هي منقذة لها، خاصةً عندما لا تتجاسر على الفصل بشكلٍ واضح بين المسيء والمحسن، ولا تُشهر وتميّز بين مَن يعمل، ومَن لا وظيفة له إلا الاستئثار أو هدم المبني؛ وما يدعو للدهشة أكثر أن تأثير مَن يرون بأنهم بُناة المجتمع ونخبته أقل من تأثير خطيب جامع، وبناءً عليه فهل ثمة من سيعاتب الناس إن لم تأخذ بكلامهم أو ما يروجونه من الأفكار؟ وبالتالي عدم إعطاء أية أهمية لفحوى انتقاداتهم المتواصلة للأحزاب الحاكمة، طالما أنهم غير فاعلين ولا هم مساهمون في إيجاد أية عويصة في ذلك المجتمع، ولا يسعون إلى تنوير المواطنين وإفهامهم بجوهر الخلاف بين القوى السياسية الفاعلة في الإقليم، أو التحدث بكل شجاعة أمام الملأ عمن يخون ومَن يدافع، عمَن يضحي ومَن يتاجر، عمَن يضع الأساسات ومَن يهم بجرفها.
عموماً يبقى الأسوأ في أية نخبة مثقفة وعلى وجه الخصوص في المجتمعات النامية هو سعيها الدؤوب لأن تكون البديل وليس الحَكم؛ بما أن المثقف الحقيقي خاصةً المستقل والحيادي ينبغي له ألاّ يسعى إلى الوصول للسلطة، ولا ينشغل بمحاباة مَن كان في السلطة، ولا يبني موقفه من المسؤول بناءً على الأحقاد الحزبية أو العشائرية أو العائلية أو الفوائد الشخصية التي يجنيها من ورائه، إنما جل همه هو أن يكون أداة حقيقية لمراقبة سلوك وممارسات المسؤولين، مع امتلاك الجرأة على انتقاد الجميع وتعرية المسيئين ممن يشكلون الخطر على المجتمع ككل، أما الذي لا يجرؤ على تعرية فساد فئة سياسية بأكملها، بينما لا يتجاسر في توجيه انتقاداته وملاحظاته المتواصلة إلاّ على مَن يقبل الملامة والعتب والنقد فهو لا محالة مثقف جبان وصاحب المكاييل المقيته، ولا شك بأن المثقف الجبان لا قدرة له البتة على أن يكون منصفاً، ومن لا يقدر على أن يحمل ميزان الإنصاف أيحق له محاسبة المسؤولين أو المواطنين؟ بما أنه وقتها إن حَكم فسيكون حُكمه كَرَمي الأعور في حقلٍ مكتظٍ بالناس؛ باعتبار أن من شيم الساعين لنشر العدل والإنصاف، إحقاق الحق والجرأة في تبيان الموقف ولكن من دون تهور مع شرط مراعاة الظروف، ومن ثم الانتقاد البنّاء الخالي من الهوى والحقد وهواجس المنفعة، وكذلك العفوَ والسماح ولكن من دون الإفراط في التساهل، ولكن بما أن المؤشرات تقول بأن حال الكثير ممن ينتسبون إلى تلك النخبة للأسف لا ينفصل عن حال الرعية في الكثير من الميادين في إقليم كردستان، وخاصةً من جهة مماثلة الأسقام المجتمعية، ومع ذلك لا يتلمس أغلبهم مجمل ما فيهم من العلل السيكولوجية والسوسيولوجية، إنما وفوقها يُحمّلون حكومة الإقليم كل ألاعيب حكومة بغداد، وكل خبث الأنظمة المجاورة، وكل ذبذبات المجتمع الدولي، وربما حمّلوها أيضاً حتى سبب تأخير هطول الأمطار؛ لذا نرى بأن ما قاله يوماً عبدالملك بن مروان لرعيته يبدو أنه ملائم تماماً لحال الرعية في إقليم كردستان وذلك بقوله: أنصفوا يا معشر الرعية، تريدون منا سيرة أبي بكر وعمر، ولا تسيرون فينا ولا في أنفسكم بسيرة رعية أبي بكر وعمر، فنسأل الله أن يُعين كلاً على كل.