تقوم فكرة الديمقراطية في سياق تحققها التاريخي والخلاصات الفكرية لها على المبادئ التي حددها كل من "جون لوك" و "مونتسكيو"، وتعني اختصارا: "الحكم بالرضا عبر الانتخابات، وحكم الأكثرية الحائز على اكبر عدد من الأصوات، والفصل بين السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية". ولدت ديمقراطية الأغلبية وترسخت من خلال تجارب الديمقراطيات المبكرة في فرنسا وبريطانيا وأمريكا خلال القرنين الثامن والتاسع عشر، وهذه الدول الثلاث تعتبر دولا متجانسة قوميا الى حد كبير، وهو تجانس لا يقسمها الى اكثريات او أقليات دينية او اثنية او ثقافية. لكن التجانس القومي لم يكن في يوم ما القاعدة العامة في كل دول العالم، بل العكس هو الصحيح حيث ان اغلبية دول العالم تتكون من مجتمعات "شعوب" متعددة الأعراق واللغات والأديان والثقافات.
والمجتمع التعددي كما يعرفه "آرنت ليبهارت" هو: "المجتمع المجزأ بفعل الانقسامات الدينية او الأيديولوجية او اللغوية او الثقافية او العرقية، كما انه المجتمع الذي تنتظم بداخله الأحزاب السياسية، ومجموع المصالح، ووسائل الاعلام، والمجتمعات التطوعية على أساس الانقسامات المميزة له". يقول المنظرون السياسيون إن مبدأ الأغلبية والأقلية السياسي قد يتحول الى اغلبية واقلية قومية، وبالتالي ينشأ عن ذلك استبداد الأكثرية ضد الأقلية.
لهذا حاول المنظرون السياسيون إيجاد حل لهذه المشكلة من خلال نظريتين. الأولى: تطبيق الفيدرالية او مناطق الحكم الذاتي لضمان الحقوق القومية للأقليات، وهو استلهام للتجربة الفيدرالية في أمريكا وألمانيا، وذلك بدافع الحد من تغول سلطة المركز بتقسيم السلطات على أساس جغرافي بين الحكومة المركزية وسلطات مناطق الحكم الذاتي، إضافة الى التقسيم الوظيفي الى سلطات تنفيذية وتشريعية وقضائية.
الثانية: الديمقراطية التوافقية التي نشأت عمليا بعد الحرب العالمية الثانية، وقد ولدت النظرية التوافقية من الحاجة الى ترشيد ديمقراطية الأغلبية المألوفة، أي منع الأغلبية من التسلط على الأقلية، ومنع الأقلية أيضا من المس بجوهر الديمقراطية ذاتها بحجة وجود اغلبية تستبد برأيها. وعليه، فإن الديمقراطية التوافقية انطلقت من قاعدة ديمقراطية راسخة وليس من ديمقراطية ناشئة.
وقد اخذت بعض دول أوروبا الغربية "بلجيكا وهولندا وسويسرا والنمسا وكذلك كندا" ذات المجتمعات غير المتجانسة من الناحية القومية بنظرية الديمقراطية التوافقية كنظام حكم للتوفيق بين مكونات شعوبها. وهناك أربعة عناصر أساسية (بحسب آرنتليبهارت) تميز الديمقراطية التوافقية، وهي: أولا: حكومة ائتلاف او تحالف واسعة تشمل حزب الأغلبية وسواه. ثانيا: مبدأ التمثيل النسبي في الوزارات وفي الإدارات والمؤسسات والانتخابات. ثالثا: حق الفيتو المتبادل للأكثريات والأقليات لمنع احتكار القرار. رابعا: الإدارة الذاتية للشؤون الخاصة لكل جماعة.
الديمقراطية التوافقية تتطلب لإنجاحها تعاونا بين زعماء القطاعات في المجتمع التعددي على الرغم من الانقسامات العميقة التي تفصل بين هذه القطاعات، وهذا يستلزم ان يشعر القادة بشيء من الالتزام بصون وحدة البلد، وبالممارسات الديمقراطية. وعلهم أيضا ان يتحلوا بالاستعداد الأساسي للانخراط في الجهود التعاونية مع زعماء القطاعات الأخرى بروحية الاعتدال والحلول الوسط، ولا بد لهم في الوقت نفسه من الاحتفاظ بولاء ودعم اتباعهم. ولذلك يتوجب على النخب ان تقوم باستمرار بعملية توازن صعبة، فثمة امران حيويان، أولهما: اتصاف قادة الأحزاب بقدر من التسامح يفوق اتباعهم. وثانيهما: مدى قدرتهم على حمل اتباعهم على مجاراتهم.
ولعل اكثر انتقادات الديمقراطية التوافقية جدية وعمقا لا يتعلق بسمتها غير الديمقراطية، بل بعجزها المحتمل عن إحلال الاستقرار السياسي والحفاظ عليه. فمن الممكن للعديد من سماتها ان تقود الى التردد وعدم الفاعلية، منها على سبيل المثال: (1) الحكم بواسطة الائتلاف الواسع، وهذا يعني ان عملية صنع القرار ستكون بطيئة. (2) الفيتو المتبادل ينطوي على خطر إضافي يتمثل في تجميد صنع القرارات كليا. (3) النسبة كمعيار لتوظيف العاملين في الإدارات الحكومية سيكون على حساب الكفاءة والفعالية الإدارية. (4) الاستقلال القطاعي يتطلب تعدد الوحدات الحكومية والإدارية، إضافة الى انشاء عدد كبير من المنشآت الخاصة لمختلف القطاعات، مما يجعل الديمقراطية التوافقية نمطا مكلفا من الحكم.
ومن مخاطر الديمقراطية التوافقية (بحسب أريك نوردلينغر) انها ربما تشجع على تفكيك الدولة، حيث يقول: "إن قيام قطاعات متمايزة إقليميا إذا اقترن بما تمنحه الفيدرالية من استقلال ذاتي جزئي ربما أتاح اندفاعا إضافيا للمطالبات بمزيد من الاستقلال الذاتي، وعندما تُرفض هذه المطالبات فقد يعقب ذلك المطالبة بالانفصال ثم الحرب الاهلية".
حتى الان، يبدو ان الديمقراطية التوافقية قد نجحت الى حد كبير في الدول الأوروبية الأربع المذكورة إضافة الى كندا، ولكنها تعثرت او بالأحرى فشلت في دول العالم الثالث التي حاولت تطبيقها كلبنان وقبرص ونيجيريا وبعض الدول الافريقية، وذلك بسبب التدخلات الأجنبية، وغياب روح الاعتدال والقبول بالحلول الوسط لدى زعماء القطاعات المتباينة في هذه الدول. الحقيقة ان الديمقراطية التوافقية لا يمكن ان تكون بديلا عن الديمقراطية الحقيقية القائمة أساسا على مبدأ المواطنة واحترام الحقوق والخصوصيات، بل هي وسيلة مؤقتة لبناء جسور الثقة المتبادلة بين الأكثرية والأقليات في المجتمعات المتعددة.
المصدر: كتاب الديمقراطية التوافقية في مجتمع متعدد. المؤلف: آرنت ليبهارت.
التعليقات