هناك تناسب طردي بين التقدم الحضاري والاستقرار العمراني, وبين ازدهار الفئات الهشة في المجتمع كالنساء والأطفال والعبيد وهي الفئات التي يدفعها المجتمع باتجاه الضفاف والهوامش عادة.
وأوضح نموذج تاريخي لهذا هي الدولة الأموية في الأندلس , والتي لم تكن تتمتع بتجربة حضارية مزدهرة لها خصوصيتها فقط ,بل أيضا استطاعت عبر تبني التفسير الرحب المرن للنص المقدس أن تخلق مناخا ايجابيا متسامحا من التعايش والقبول بالآخر وهي البيئة المثلي لتخصيب ربيع الحضارة.
فتخلق هناك نهضة علمية كبرى جعلت من مدينة قرطبة عاصمة النور والمدنية في أوروبا آنذاك , وفي عهد الخليفة الأموي الحكم بلغ عدد الكتب في مكتبته 400 ألف مجلدا وجعلها عامة وبات اسمها مكتبة قرطبة .
جميع هذا عبر حواضن ثقافية وفكرية تحتفي بجميع مكونات المجتمع الأندلسي من عرب ويهود ونصارى قوط, فتتيح لهم حرية ممارسة شعائرهم الدينية ,بل تم استوزارهم لمناصب كبرى في الدولة , بعدما برعوا في الطب والفلسفة والتاريخ , وعبد الرحمن الناصر استوزر طبيبه اليهودي حسداي بن شيروت.
ويبدو إن هذا المناخ الرحب المستقر تحت مظلة دولة مركزية قوية , هو أيضا الذي اتاح للمرأة الأندلسية حيزا في الفضاء العام , ففي ذلك العهد ظهر في فقه التعاملات والعقود مايسمى بالزواج الأندلسي أو القيرواني ,حيث الأندلسية ليس فقط تملك عصمتها بيدها مع إمكانية مفارقة الزوج متى مارغبت , بل أيضا تجعله يخضع لشروطها في أن لايتزوج أو يتسرى عليها , ولايغير مكان إقامتها , وأن يستأذنها عند سفرة ولايغيب عنها عن 6 شهور , فأن فعل بامكانها مفارقته.....وسواها من الشروط التي لايمكن رصدها في هذا الحيز المدود.
ولعلنا نتفهم العقل الذي انتج مثل هذه الشروط في عقد النكاح في زمان يعج بالفقيهات اللواتي كان لهن حلقات علم في المساجد مثل نزهون الغرناطية , وعائشة القرطبية , وكريمة المروزية ...وسواهن كثير.
و ابن حزم الأندلسي أخذ علومه الشرعية عن النساء فقيهات الأندلس , مما انعكس على رؤيته للمرأة وأفتى بجواز أن تتصدى المرأة للقضاء , ولم يكن وحده الذي أفتي بهذا بل القاضي أبوبكر العربي قاضي أشبيلية , والذي استند بدوره على فتوى للإمام الطبرى بجواز أن تتولى المرأة القضاء.
وهذه الفتاوى ليست شاذة في المدونة الفقهية بل كان المذهب الحنفي العقلاني القائم على القياس يجيز تولى المرأة القضاء ضمن حالات خاصة , ولكن ليس على الإطلاق.
وفي وقتنا الحاضر ليس هناك وقت أكثر مناسبة من الوقت الحالي لولاية المواطنة السعودية منصب القضاء , لاسيما بعد قطعها أشواطا طويلة داخل المؤسسة العدلية كمحامية و وقوفها للترافع فوق منصات قاعات المحاكم ,وذلك من خلال تفعيل فقه النوازل , والإيمان بالصيرورة واستجابة الفتاوى لتغير الأحوال والأزمنة والأمكنة.
العلاقة التناسبية الطردية بين التقدم الحضاري من جهة والموقف من المرأة من جهة أخرى , هي أبرز المؤشرات التي تعكس حقيقة تمدن المجتمعات الإسلامية والتفاوت بينها , وحتما هناك فرق بين المسلمة في ماليزيا والمسلمة في طالبان ,فالمجتمعات المتخلفة المتطرفة وحدها تتبنى أشد الفتاوى قسوة وقمعا لتطمس بها النساء, وتتعامل مع التاريخ بطريقة انتقائية فتختار منه كل ماهو ظلامي عنيف من المدونة التاريخية, وتستدنيه إلى الواجهة كسوط تلوح به في وجه النساء.
التعليقات