للأحزان أشكال عدة، لكنها لا تبرح منابعها، طوعاً أو كُرهاً، إلا كي ترجع إليها. ومِن الناس مَنْ يكظم القَرح، ما استطاع، حتى تبيَّض العين حزناً، كأنها تعيد ألوان قوس قزح السبعة إلى أصلها الأساس، الأبيض.&

أمِن المفارقات أن لباس الكفن أبيض؟ تحبس الأحزان روح كل امرئ قُدّر له، لها، أن تكون رحلة الحياة كمشة أحاسيس تعصف بها رياح الأقدار ذات اليمين مرة، وذات الشمال مرات، تبحر شرقاً إذا غربت الشمس، وتهاجر غرباً إذا طلع الفجر، ثم ينتهي لباسها العضوي في قبضة تراب، كأنما كل ذلك التكوين البيولوجي، بكل ما افتُتِن به من لذائذ، وفَتن غيره، وما حرّك مِن غرائز الشهوات، لم يك، ذات يوم، شيئاً يُذكر. لكن الأرجح أن كل روح حائرة تتحرر من أسر سجنها البدني، إلى ملكوت الفضاء الكوني، إنما تحرر في الآن نفسه، النفس من آلام أحزان أوجعتها سنين عدة، علّها ترتاح تلك اللحظة، فلا قيود تكبّلها، ولا شروط تُفرض عليها فرضاً.

أيمكن القول أن روح أحمد ابراهيم الفقيه، مُبدع «خرائط الروح»، هي بين أرواح ذلك الجمع المتميّز من بشر، تموت أبدانهم، كي تبقى كنوز ما تركوا وراءهم تعزف ألحان إبداع تستعصي على الموت؟

الإجابة: نعم، وما أظنها مبالغة، ولا هي فقط من باب المديح في رثاء أديب احتل مكانه الواضح على خارطة أدب القصة القصيرة والرواية العربية، منذ زمن بعيد، وقبل سنين عدة من إنجازه «خرائط الروح»، العمل الإبداعي غير العادي، الذي عَدَّه أكثر من ناقد، أطول رواية عربية، كونها وُضعت من إثني عشر جزءاً، وخص الفقيه «إيلاف» بفصول منها، قبل نشرها كاملة.

عندما يترجل أحد فرسان إبداع الكلمة الكبار، تنهال بكائيات الرثاء والتبجيل. ذلك الأمر جداً طبيعي. ومن الطبيعي، أيضاً، أن يتنافس الراثون، حتى لو لم يقصدوا، في إظهار مدى قربهم من الراحل الكبير، أو شدة معرفتهم، عن قرب، بكثير عنه لا يعرفه كثيرون. أمام ما يبدو كأنه مهرجان عزاء، يأوي قليلون إلى كهف صمت الحزن، يكتفون بتأمل ما يقرأون، رغم أن أولئك النفر القليل ربطتهم بالراحل ذاته أواصر قُربى، سواء أسرّية أو مِهنية، أو إنسانية، أو كلها معاً.

سوف يُذكر أحمد إبراهيم الفقيه، الراحل الليبي الكبير، كلما جرى ذكر أدباء عرب كبار أثروا مسيرة القصة القصيرة في الأدب العربي طوال سنوات النصف الثاني من القرن العشرين. وسوف يُذكر الفقيه أيضاً عندما يجري ذكر كتاب مشاهير من العالم العربي تُرجمت أعمالهم إلى غير لغتهم، كما حصل مع «الغزالات»، رواية الفقيه التي نُشرت بالانجليزية. إنما يجب ألا يُنسى أيضاً الصحافي أحمد ابراهيم الفقيه، الذي ترأس مطالع سبعينات القرن الماضي، تحرير أسبوعية حملت إسم «الأسبوع الثقافي»، أصدرتها المؤسسة العامة للصحافة، فأدارها الفقيه بحِس الصحافي، ومسؤولية الكاتب المنشغل بالشأن التوثيقي، وإلى جانب حضور أقلام كتّاب ليبيين وعرب معروفين على صفحاتها، فقد شكلت أيضاً مدرسة خرّجت جيلاً من شابات وشبّان الصحافة الليبية المهتمين والمهتمات بالشأن الثقافي عموماً، وبالتوثيق التاريخي خصوصاً، وكان لصحيفة «الأسبوع الثقافي» حملاتها التي شدت الانتباه، آنذاك، ومنها حملة إحياء مدينة طرابلس القديمة، والمطالبة بصيانة الأحياء والمباني التاريخية وحظر هدم أي منها.

حقاً، يغيِّب الموت جسد كاتب مثقف بحجم أحمد ابراهيم الفقيه، لكن روح صاحب «خرائط الروح» سوف تبقى عطاءً يشع عبر كل الأزمان، من خلال بقاء الروح في كل ما خلّف من تراث مهمٍّ بمجالات إبداع عدة، من القصة والرواية، إلى المسرحية والمقالة الصحافية. يُضاف إلى هذا كله، ويتماهى معه، أن أصدقاء الراحل الكبير سوف يفتقدون روحه المرحة، ودفء صداقته، حيثما حل وأقام.&

&
&