ألبير خوري من بيروت: قبل أقل من عام على تعيينه سفيراً للولايات المتحدة في لبنان، أصبح جيفري فيلتمان واحداً من أهل البيت إن لم يكن أكثر. وإذا كان لنا أن نستذكر ظهوره الأول، صارم الوجه قاسي الكلام حاد الطباع، فإنه اليوم، حلو القسمات طيب اللفتات "اين منه حبيب" لكل المسؤولين اللبنانيين على مختلف أطيافهم وسياساتهم، لا يتوانى عن زيارة كل منهم بمفرده، أكان ذلك عملاً دبلوماسياً أو واجباً اجتماعياً... يهمه أولاً وأخيراً أن يكون حاضراً في كل المناسبات، حاملاً معه في كل مرة بشارة أميركية لمساعدة لبنان في كل المجالات بعدما أبدت حكومة السنيورة حسن نواياها وطيب مقصدها واعتدال مواقفها... إنما، والكلام لفيلتمان، "ان تنفذ الحكومة اللبنانية العتيدة ما تبقى من بنود القرار الدولي 1559". وتأكيداً على حسن النوايا الاميركية، اعلن فيلتمان عن مشروع بناء سفارة اميركية جديدة في بعبدا وعلى مقربة من القصر الجمهوري ووزارة الدفاع، بعدما تبين أن موقفها في عوكر غير استراتيجي ويضيف بتطلعاتها وطموحاتها وأطماعها الممتدة من لبنان الى الشرق الاوسط الكبير والجديد.
مشكور السفير فيلتمان على تطيميناته، ونحسده على هذه البراءة الملائكية التي علت وجهه وهو يزف للبنانيين نبأ بناء السفارة الاميركية الجديدة، وكذلك مساعدات بلاده لدولة استنـزفت كل قواها وثرواتها وطاقاتها، الاحرى استنـزفها الأميركيون "ومن أوصوا بهم"، على امتداد ثلاثين سنة، حتى تبدلت الظروف، وبدل الاعتماد على الاوصياء، من عرب وغير عرب، استعادت المبادرة لنفسها، فكان قرار انسحاب سوريا العسكري والمخابراتي من لبنان، وكانت تظاهرة الحرية والسيادة والاستقلال في الرابع عشر من آذار/ مارس، فالانتخابات النيابية في قانونها وتوقيتها و"بمن حضر"، ما ادى الى فرز طائفي مذهبي كاد أن يضع لبنان في فراغ دستوري مخيف، لولا التدخل، ودائماً الاميركي في اللحظات الحرجة، ليمارس سياسة الدولة العظمى والوحيدة "كن فيكون"، فولدت حكومة فؤاد السنيورة مدعومة بأكثرية نيابية لم تحظ بمثلها اي حكومة لبنانية من قبل.
حتى هذه اللحظة كانت الاوامر الاميركية "كن فيكون" سارية المفعول، و"الامر لي" سرى مفعوله على كل ما حققه لبنان في خلال فترة التسعة شهور الماضية، انما سقط مفعولها امام سلاح حزب الله والمخيمات الفلسطينية، ما يؤكد ان "الحركة الاميركية" كان فيها "بركة" وكلام السفير الاميركي جيفري فيلتمان المطمئن على اكثر من صعيد سقط امام ارادة المقاومة، التي دخلت الحكومة وباتت فريقاً في السلطة التنفيذية بعدما شكلت كتلة قوية في السلطة التشريعية، انما دخولها الحكم، وعلى عكس ما تراءى للاميركيين، زادها اصراراً على مواجهة اسرائيل حتى خروجها ليس فقط من مزارع شبعا اللبنانية، انما من كامل الاراضي العربية المحتلة حتى تحقيق الدولة الفلسطينية.
من هنا، يبدو كلام دبلوماسي منمق وملطّف للسفير فيلتمان لا يوفر حجة يمكن الرهان عليها لوقف الاعتداءات الاسرائيلية وخروجها من الاراضي العربية المحتلة، وبالتالي فإن حكومة شارون التي تصر على انسحاب قواتها من قطاع غزة ومن طرف واحد، تصر في المقابل على اللعب على وتر العلاقات اللبنانية ـ السورية المتوترة، وكذلك على الانقسامات داخل الجسم اللبناني، وهي مدركة تماماً ان ما يصرح به المسؤولون اللبنانيون مجتمعين على اعتبار سلاح المقاومة قضية لبنانية داخلية يمكن التفاهم عليها بين اللبنانيين انفسهم هو بعض الحقيقة، في حين ان الحقيقة الكاملة تؤكد ان حكومة السنيورة تحاول تعطيل ما تفرزه التطورات الاقليمية والدولية من تحولات، تبدو حتى الآن ليست في صالح العرب، ولبنان وسوريا تحديداً ما يطرح السؤال: أي لبنان جديد نتطلع اليه في زحمة المفاجآت الامنية والسياسية؟
ربما جيفري فيلتمان وادارته الاميركية يعرفان الجواب وهما يملكان الساحة وألاعيبها وألعابها باستثناء القليل جداً. غير أن هذا القليل متمثلاً بسلاح المقاومة والمخيمات، قد يكون هو الرقم الصعب، إن لم يكن حقيقة هو الرقم الاصعب، والقادر من خلال الصمود السوري والعديد من الفصائل المقاومة في فلسطين المحتلة على خربطة الخطة الاميركية، واذا كان الرهان الاميركي على توتر العلاقات اللبنانية ـ السورية في الفترة الاخيرة، وعلى انقسام داخلي في كل من لبنان وفلسطين، وربما الرهان على زعزعة الاستقرار الداخلي في سوريا، فإن مثل هذه الرهانات ليست جديدة، وقد واجهها اللبنانيون والسوريون والفلسطينيون في احلك الظروف وسقط لهم مئات ألوف الشهداء، أكان في نزاعات داخلية أم في مواجهة الاعتداءات الاسرائيلية المستمرة حتى اليوم، لكن اياً من هؤلاء الافرقاء أعلن قبوله شروط شارون وبوش والقرار الدولي 1559.
وفي المحصلة يجب الاقرار ان سحب سوريا جيشها من لبنان وتشكيل حكومة لبنانية غير خاضعة لنفوذها، ونزع سلاح "حزب الله" والمخيمات الفلسطينية، امور اصرت عليها تل ابيب وواشنطن وما زالت، كمقدمات للوصول الى توقيع اتفاق سلام لبناني ـ اسرائيلي، والى نزع سلاح المقاومة والمخيمات، ما يعني اضعاف سوريا ونزع وزنها الاقليمي.
لقد اعتقدت اسرائيل لفترة قريبة جداً أن انسحاب سوريا من لبنان في مناخ هياج شعبي ضدها وتحرر الحكومة اللبنانية من نفوذها، سيجعلان لبنان اكثر طواعية لعقد السلام معها. وهذا ما أكدته احداث ما بعد جريمة اغتيال الرئيس الحريري وصدور القرار 1559، حيث بدأت تل ابيب مباشرة تشن حملاتها المباشرة على دمشق، وأعلن وزير خارجيتها صراحة أن حكومته كانت وراء صدور القرار، وان الهدف منه، هو ايجاد وضع يمكن فيه ان يوقع لبنان اتفاق سلام معها. الى ذلك، والكلام لمصادر اسرائيلية فإن نزع سلاح "حزب الله" والمخيمات الفلسطينية، انما يهدف لضمان سلامة مستوطنات اسرائيل الشمالية ونشر الجيش اللبناني على الحدود بين لبنان واسرائيل، وعقد صفقة يتم خلالها توطين الفلسطينيين في البلد. في المقابل، حاولت دمشق الالتفاف على الحملة الاسرائيلية عليها حاولت دمشق الالتفاف على الحملة الاسرائيلية عليها بإعلانها مرات عدة عن استعدادها للعودة الى مفاوضات السلام مع الدولة العبرية. لكن واشنطن وتل ابيب كانتا تصران على نزع كل "القوة السورية" وان تقدم دمشق الى المفاوضات خالية من اية اوراق ضغط، وبعد أن تكون التسوية قد تمت بين الفلسطينيين والاسرائيليين.
ويبدو أن رهانات اميركا واسرائيل سقطت في وجه المقاومة اللبنانية والفلسطينية والمواقف السورية الصامدة، خصوصا اذا اخذنا بالاعتبار ان انسحاب سوريا من لبنان لم يؤد الى انحسار نفوذها كلياً من لبنان، وذلك بسبب مكامن القوة التي تجمع ما بين البلدين والشعبين، وهما الجغرافيا والتاريخ والتواصل والمصالح العديدة المشتركة.
وكما الرهانات سوف يتبين لاحقاً للسفير جيفري فيلتمان أن وعوده "اللبنانية" ساقطة بالكامل، ما لم يسقط القرار الدولي 1559، وبالتالي، ان يستعيد لبنان قراره بعيداً عن اي ضغوط اقليمية ودولية، وبدون ذلك، يبقى الصراع قائماً والاخطار أبعد من لبنان، والعراق وفلسطين وسوريا... وربما أبعد من خارطة الشرق الاوسط الجديد لتلف العالم من أدناه إلى أقصاه.