موسكو : بعد مرور ثلاثة أشهر على الأعمال الإرهابية في واشنطن ونيويورك عام 2001 أطلعت وزارة الخارجية الأميركية نظيرتها الروسية على نية الجانب الأميركي الخروج من معاهدة الدفاع المضاد للصواريخ لعام 1972. وبعد مرور ستة أشهر أوقف سريان مفعول المعاهدة. وفى 26 مايو (أيار) عام 2002 وقع الرئيسان الروسي والأميركي معاهدة تقليص القدرات الهجومية الإستراتيجية لدى الطرفين. وأصبح واضحا للاختصاصيين في مجال الأمن القومي أن الرقابة الثنائية ولربما المتعددة الأطراف على الأسلحة النووية بمفهومها السابق أصبحت حاليا من ذكريات التاريخ.

واليوم كما قبل أربع سنوات لا يوجد أدنى شك في أن الإدارة الأميركية لا تود تقييد نفسها بأي اتفاقيات تتعلق بالحد من الأسلحة وتقليصها مهما كانت. وتجري في السياسية العسكرية الأمريكية تحولات ملموسة لأسباب أعمق من ضرورة مكافحة الإرهاب الدولي. فلف النسيان منذ فترة طويلة المعاهدة الثانية حول تقليص الأسلحة الهجومية (عام 1993) ومعاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية (عام 1996) اللتين لم تصادق الولايات المتحدة عليهما.

وجرت زيادة ميزانية البنتاغون بشكل حاد (بما يقارب 100 مليار دولار). وتم في الولايات المتحدة تبني نظرية نووية جديدة تنص على تحديث الأسلحة الهجومية الإستراتيجية وصنع عبوات نووية صغيرة القدرة وخارقة من الممكن استخدامها مع السلاح العادي العالي الدقة وكذلك إمكانية استخدام السلاح النووي ضد الدول غير النووية.

وإن تغيير سياسة واشنطن العسكرية حسب تقييم عدد من الخبراء الروس لا يشكل خطرا يهدد أمن روسيا القومي بصورة مباشرة على أي حال خلال الـ 10 ـ 15 سنة القادمة أي حتى نشر المنظومة الأمريكة الشاملة للدفاع المضاد للصواريخ الإستراتيجية فعليا. ومع ذلك فان هذه التغييرات وبالمرتبة الأولى وقف سريان مفعول معاهدة الدفاع المضاد للصواريخ تضع في موضع الشك نظام الرقابة الدولي على الأسلحة وقد تثير موجة جديدة من سباق التسلح.

فان الخطوات التي قام بها الأميركان تعتبر خيارات إستراتيجية ولذلك يتعين على روسيا اتخاذ قرارات إستراتيجية من جانبها بشأن سياستها النووية. وإن الأعمال الإرهابية التي لم يسبق لها مثيل من حيث الأبعاد والأخطار والتي تغير الأولويات تؤدى انطلاقا من النظرية النووية الأمريكية الجديدة إلى خفض مستوى استخدام السلاح النووي مع نشوء أمكانية التصعيد بشكل لا يمكن السيطرة عليه. ويساعد على ذلك أيضا استمرار انتشار أسلحة الدمار الشامل ووسائل نقلها وكذلك تنامي عدم الاستقرار إقليميا.

وتتلخص ميزة الفترة الراهنة في غموض تطورات الوضع العسكري السياسي في العالم. وتواصل الولايات المتحدة تحديث قواتها النووية وتحافظ على القدرة على زيادتها بسرعة. ومن الواضح وضح النهار أن مسألة توقيع اتفاقيات جديدة مع روسيا (ملزمة قانونيا ومن السهل مراقبتها) حول تقليص الأسلحة الهجومية الإستراتيجية بصورة حتمية لا رجعة فيها، حذفت من جدول العمل في المرحلة الراهنة. والآن أن الاحتياطي التكنولوجي المتراكم لدى الولايات المتحدة ونتائج التجارب العملية لبعض عناصر الدفاع المضاد للصواريخ كل هذا يدل على إمكانية نشر منظومة دفاع مضاد للصواريخ محدودة وحيوية تماما في المستقبل المتوسط الأمد لتكون من الممكن زيادة كثافتها في المستقبل بصورة متواصلة. وانطلاقا من هذا لا يبقى لدى روسيا خيار إلا البقاء في المستقبل القريب (على الأقل خلال 15 ـ 20 سنة) دولة نووية جبارة. وهنا لا بد من القول أن خطط تطوير منظومة القوات النووية الروسية التي كانت سارية حتى وقت قريب كانت من جانب محسوبة على أساس احتمال دخول المعاهدة الثانية لتقليص الاسلحة الهجومية حيز التنفيذ (الأمر الذي لم يتحقق أبدا) والحفاظ على معاهدة الدفاع المضاد للصواريخ (الصادرة عام 1972)، ومن جانب آخر موجهة إلى أن تصبح هذه القوات شبيهة quot;للثالوثquot; النووي الأمريكي مع زيادة قسط المركبتين البحرية والجوية على حساب المجموعة الأرضية للصواريخ البالسية العابرة للقارات.

وأصبحت ضرورية في الوضع الإستراتيجي الجديد قضية إعادة النظر بصورة فورية في الخطط الروسية في مجال منظومة القوات النووية باتجاه تمديد فترة استخدام مجموعة الصواريخ البالستية المنطلقة من الأرض والعابرة للقارات إلى اقصى حد والحفاظ على التشكيلة القتالية المخططة للقسم البحري في quot;الثالوثquot; وكذلك المركبة الجوية التى بوسعها حل سواء المهمات النووية أو غير النووية. ولن يكون مبررا من وجهة النظر العسكرية ولا الاقتصادية الحفاظ على الخطط القديمة التي أعدت لوضع آخر نوعيا. ومن الممكن افتراض أن كافة هذه التعديلات قد أدخلت في الإستراتيجية النووية الوطنية الروسية. فان اللهجة الواثقة في رسالة الرئيس الروسي السنوية توفر المسوغات لمثل هذا الحدس.