في ظل تنامي المخاوف من أزمة البورصات الحالية، وإحتمال دخول العالم دورة ركود اقتصادي، إنشغل الفرنسيون بالجدل الذي أثاره تقرير وضعته لجنة من الخبراء برئاسة الاقتصادي جاك أتالي عن حال الإقتصاد الفرنسي والكوابح التي تعوق إنطلاقه. فبعد خمسة أشهر من تكليفه بالمهمة، قدم أتالي تقرير اللجنة الذي جاء في 200 صفحة، إحتوت 316 مقترحًا، سيحقق تطبيقها تراجع البطالة وزيادة النمو الاقتصادي وتحسين عجز الموازنة العامة، وكل هذا دون زيادة في الضرائب.
وكان ساركوزي قد تعهد إبان تكليف اللجنة في تموز/يوليو الماضي بتنفيذ توصياتها بحيث لا تبقى حبرًا على ورق، لكن لا يبدو أن الوفاء بهذا التعهد سيكون أمرًا سهلاً، إذ أثارت بعض المقترحات حفيظة نواب الحزب الحاكم وناخبيه في وقت تتأهب فيه القوى السياسية المختلفة لخوض الانتخابات البلدية بحلول آذار/مارس المقبل. ومن أهم المقترحات المثيرة للجدل، تلك المتعلق بإلغاء المحافظات أو المناطق الإدارية، وكذلك خفض الإنفاق العام وفتح باب الهجرة الانتقائية لمواجهة نقص اليد العاملة في بعض القطاعات، بحيث يتم تسهيل منح تأشيرات الدخول لأصحاب المهن والشهادات التي تفتقد إليها فرنسا، مع توجه خاص لطالبي الهجرة من دول أوروبا الشرقية.
ومن المقترحات التي تعكس توجها شديد الليبرالية تلك الخاصة بقوانين العمل، والتي ينص بعضها على إمكانية العمل منذ عمر مبكر وحتى بعد الخامسة والستين لمن يرغب ولديه القدرة على ذلك، وكذلك اقتراح لفتح وتخفيف القيود على بعض المهن الحرة التي تحكمها قوانين خاصة بعدد العاملين فيها مثلاً، مثل مهن الصيدلة وسيارات الأجرة والمقاهي، هذا إضافة إلى إلغاء القوانين التي تمنع فتح المخازن أيام الآحاد أو تلك التي تمنع البيع بخسارة بالنسبة إلى المتاجر. كذلك تقليص حجم الإنفاق العام بمعدل نقطة في الناتج المحلي الخام للبلاد بحيث تصل فرنسا إلى المعدل الأوروبي بحلول 2012، وتعهد واضعو التقرير بأن العامنفسه سيشهد إذا طبقت المقترحات ارتفاع النمو بمعدل نقطة إضافية، بما ينطوي على ذلك من خفض للبطالة والديون العامة بحيث لا تتجاوز 55% من إجمالي الناتج المحلي الفرنسي. على أن يترافق هذا مع تقويم سنوي للعاملين في القطاع العام للتأكد من حسن تطبيق التوصيات.
المقترحات الخاصة بالنظام التعليمي حظيت بقبول عام من أغلب الأطراف والمعلقين، الذين أقروا بضرورة إعادة النظر فيه وزيادة إمكانياته، وتأسيس مدن علمية جديدة تتيح احتضان العلوم الرقمية. حرية اختيار المدارس فرض شراء سيارات هجينة على المؤسسات العامة تقويم كل عامل في القطاع العام بعضها يبدو صعب التطبيق. كذلك كان الأمر بالنسبة إلى تأهيل العاطلين عن العمل وتعويضهم ماديًا على فترات التأهيل إضافة إلى تسهيل حصولهم على سكن اجتماعي.
وكانت وسائل الإعلام قد بثت بشكل مباشر تقديم هذا التقرير فيما يشبه استعراضًا تلفزيونيًا إعلاميًا حضره ساركوزي وأغلب الوزراء، إضافة إلى أعضاء اللجنة المكونة من أساتذة وخبراء اقتصاديين ورؤساء شركات. وبالطبع لم يكن الأمر مجرد تسليم تقرير، بل نقاشًا مطولاً شرح ساركوزي خلاله أفكاره وعمل الحكومة الحالي والمستقبلي، مبديًا ارتياحه لأفكار أتالي ورفاقه وقناعته بأغلبية الاقتراحات باستثناء قلة منها وفي مقدمتها إلغاء المناطق التي لا يمكن محوها على أساس أن لكل منها هويته الخاصة وتاريخه وثقافته، حتى ولو كانت تسجل الخسائر.
وكان أتالي قد أعلن أن المقترحات مترابطة ولا يمكن تطبيق واحدة منها دون البقية، واصفًا تقريره بأنه حر وليس ليبرالي عادل وليس منحازًا، كما أكد أن المقترحات وضعت في ظل هاجس حماية الضعفاء في المجتمع، وبهدف تغيير فرنسا الغارفة في تقاليد ولى زمانها. quot;هذا تقرير جاهز للتطبيق وليس للدراسةquot; فكرة كررها أتالي في وصف التقرير الذي أضاف أنه قابل للتطبيق تقينًا ومتوازن ماليًا. لكن دفاع أتالي المسبق عن حصيلة عمل لجنته وتمسكه بمقترحاتها مجتمعة لقي استنكارًا من مختلف الفعاليات والأحزاب السياسية، خاصة البرلمانيين الذين وجدوا أن التوصيات تقلص دورهم وتتجاهله. وقد سارع رئيس الحكومة فرنسوا فيللون إلى تهدئة الوضع، مشيرًا إلى أن تقرير أتالي ليس سوى quot;قاعدة عملquot; كما وعد البرلمانيين بأنهم سيشاركون في وضع القرارات الهادفة إلى إطلاق عجلة النمو. وكان عدد من نواب اليمين الحاكم قد شن هجومًا على quot;إملاءاتquot; أتالي الذي يصر على تطبيق مجمل التوصيات ويرفض الأخذ بما يناسب منها فقط. وبهذا الخصوص أعلن رئيس كتلة حزب ساركوزي في البرلمان أنه لا يمكن فتح كافة الجبهات في وقت واحد. ويعترض الحزب الحاكم على إلغاء المناطق وفتح بعض المهن الحرة التي سيتضرر أصحابها وهم يصوتون غالبًا لصالح اليمين. أما رئيس تجمع المحافظات الفرنسية التي تريد اللجنة إلغاءها، فأعلن أن على الدولة التنظيف أمام بابها أولا، حيث تصل ديونها إلى 1300 مليار يورو، فيما لا تتجاوز ديون المناطق والمحافظات والبلديات مجتمعة 100 مليار يورو.
أما بالنسبة إلى المعارضة، فقد أعلن سكرتير عام الحزب الاشتراكي فرنسوا هولاند أن بعض مقترحات التقرير مثيرة للقلق الشديد وتوحي بنية على رفع ضريبة القيمة المضافة. نائب اشتراكي آخر وصف التقرير بأنه غير عادل اجتماعيا وغير فعال اقتصاديًا، منددًا بتشكيلة اللجنة المكونة من نخبة فكرية واقتصادية والتي لا تضم أي ممثل عن القوى العاملة.

وتبدو مقترحات اللجنة غريبة من حيث طابعها المتطرف في الليبرالية والتي تتناقض من حيث المبدأ مع رؤية اليسار الفرنسي الذي أتالي أحد نجومه. فمع أنه لم يكن عضوًا فاعلاً في الحزب الاشتراكي إلا أنه كان مقربًا جدًا من الرئيس فرنسوا ميتران، وكان رئيس مستشاريه في قصر الإيليزيه. كما أنه كان عشيق سيجولين رويال قبل ارتباطها مع فرنسوا هولاند، ويقال إنه كان وراء صعود رشيدة داتي السريع. وجاك أتالي هو من مواليد الجزائر 1943 هاجر إلى فرنسا إبان حرب الاستقلال كما فعلت العديد من العائلات اليهودية آنذاك ومعروف عنه تفوقه الدراسي هو وشقيقه التوأم برنار، حيث تنقل بين أهم الجامعات الفرنسية وحصل على شهادات عالية في الهندسة والاقتصاد وله مؤلفات كثيرة.
أمام هذه المعطيات يواجه الرئيس الفرنسي اختيارا صعبا بين تقرير يجسد رؤيته الشخصية عن القطيعة الاقتصادية مع فرنسا القديمة وبين برلمان يطلب منه الاعتراف بأن له كلمته في ما يخص حياة الفرنسيين ومستقبل اقتصادهم. بعضهم يراهن على جرأة ساركوزي وبعضهم الآخر يؤكد أن تقرير أتالي سينتهي كسابقيه مثل كتاب جميل على أحد الرفوف لا يجد من يقرأه. المؤشرات الأولى قد تظهر هذا الربيع مع إعلان الحكومة عن خطتها الاقتصادية ومعرفة ما أخذت به من توصيات لجنة أتالي.