طلال سلامة من روما: بين تسعينات القرن الماضي وبداية القرن الحالي تحدث الخبراء كثيراً حول إمكان تحول المدن الإيطالية الكبرى الى صحراء. آنذاك، فضل الإيطاليون العمل يومياً في قلب هذه المدن في موازاة السكن في المناطق الداخلية أو المرتفعات. فجأة، تبدل هذا الميول وعاود الإيطاليون احتلال المدن الواقعة وسط وشمال ايطاليا. وبما أن عام 2050، وهو الخط الأحمر الذي تحاول ايطاليا تجاوزه بصعوبة عن طريق زرع أكبر عدد من المهاجرين لاستبدال المسنين والقوى العاملة التي ستذهب الى سن التقاعد، يشغل بال العديد من المحللين السياسيين الذين يتوقعون موطئ قدم أجنبية في الأنسجة السياسية الإيطالية، باشر الباحثون في العلوم السياسية والديموغرافية العمل لمراقبة مستقبل جنوب ايطاليا، على الصعيد السكاني. هنا نرى أن ثلاثة مدن واقعة في جنوب ايطاليا، هي باري ونابولي وباليرمو(عاصمة المافيا)، ستشهد تراجعاً لافتاً في عدد سكانها إضافة الى مدينة جنوى شمال غرب ايطاليا التي تعيش حالياً تحت وطأة مافيا المخدرات كونها تحتضن أكبر مرافئ ايطاليا. في حين ستشهد مدناً أخرى، كما فلورانسا وميلانو وروما وبولونيا، نمواً في عدد سكانها قد يتجاوز معدل النمو السكاني الوطني، الذي يرسو على 3.2 في المئة سنوياً.
بمعنى آخر، ستعيش ايطاليا حركتين متعلقتين بالهجرة. الأولى تدعى quot;الهجرة الخارجيةquot; وترتبط بالمهاجرين الأجانب الذين تحاول رابطة الشمال عرقلة تدفقهم الى البلاد في السنتين القادمتين من جراء الأزمة المالية التي وقعت ضحيتها العديد من الشركات الإيطالية. أما الثانية فتدعى quot;الهجرة الداخليةquot; المرتبطة بنزوح سكان بعض المدن الإيطالية، من الجنوب الى الشمال، بحثاً عن فرص العمل الجيدة ولقمة العيش الهنيئة ونمط حياة اجتماعية أكثر أماناً.
طالما استقطب شمال ايطاليا الإيطاليين الجنوبيين والمهاجرين الأجانب معاً. وما يساهم في إعادة النبض السكاني الى مدن شمال ايطاليا هم المهاجرين، في الصف الأول. فالمهاجرين يميلون بصورة طبيعية الى تركيز جذورهم في شمال ايطاليا(في المدن الكبرى كما ميلانو وتورينو) للعمل والتمتع بأوضاع معيشية أفضل بكثير من بيئة مافياوية تكتسح معظم مدن ايطاليا الجنوبية. ويدعم المهاجرون، في هذه العملية، درجة التعليم العالية التي يتمايزون من خلالها والتي تجعلهم يتحركون بسلاسة. وبرغم وجود رابطة الشمال في هذه المدن الرئيسية الشمالية إلا أن الجميع هناك يشعر بسياسات اندماج أكثر فعالية مقارنة بتلك الجنوبية، تسعى البلديات والمحافظات والأقاليم شمال البلاد، الى تطبيقها بحذافيرها دون أن يشعر أحد بمنهج أيديولوجي أم ميول إداري عنصري.
مع ذلك، سيجلب الاكتظاظ السكاني، المحلي والأجنبي، الذي سيطال في السنوات القليلة القادمة مناطق ومدن محددة وسط ايطاليا وشمالها، معه بعض المشاكل الضاغطة أكثر فأكثر كما التلوث واستهلاك الموارد الطاقوية وبعض الصعوبات في الاندماج الاجتماعي الذي يشمل الأجانب والإيطاليين الجنوبيين معاً! مما يؤول أوتوماتيكياً الى نمو سكني مبالغ به للضعفاء على هامش المجتمع الشمالي مما يسبب بدوره أنواعاً جديدة من الفقر والحاجة.
في سياق متصل، تحاول حكومة برلسكوني معالجة هذا النمو السكاني المرتقب بواسطة تحسين سياستي السكن والاندماج الاجتماعي. على الصعيد الشخصي، يعي برلسكوني لمدى خطورة هذا التوسع السكاني في حال تُرك السكان الى أمرهم والى سياسة الغابات العشوائية، من دون رعاية حكومية. فالهدف الراهن يتمحور حول جعل بعض مدن شمال ايطاليا محوراً لجذب الإيطاليين والأجانب معاً عن طريق ضمان سياسة سكنية عادلة للجميع. وإلا، فان مدن شمال ايطاليا ستعود بالجميع الى ستينات القرن الماضي أين كان الإيطاليون الشماليون يعاملون المواطنين القادمين من جنوب ايطاليا كمجرد كلاب مشردة!