بيروت: الخطير في الهجوم الإسرائيلي الجديد على غزة، هو أنه كشف في لحظة واحدة عن ظواهر وواقع لا يُتحدث عنه كثيرا وقد يكون أخطر بكثير يتمثل في الحروب الأهلية العديدة القائمة أو الكامنة داخل العالمين العربي والإسلامي.

أبرز علائم هذه الحرب، كانت الحملات العنيفة المتبادلة حول دور مصر في الأزمة الراهنة. فليس بسيطاً أن يدعو السيد حسن نصر الله القوات المسلحة المصرية إلى الثورة، ولا هو تفصيل أن تعتبر القاهرة هذه الدّعوة بمثابة quot;إعلان حربquot; عليها من جانب إيران وحزب الله معاً، بيد أن هذا ليس كل شيء.

فالمحور الإيراني - السوري يتّـهم المحور المصري - السعودي بالتواطؤ مع الدولة العبرية لتصفية حليفه الحماسي في فلسطين، كما سبق أن اتهمه عام 2006 بتغطية الهجوم الإسرائيلي على لبنان لتصفية حليفه الآخر حزب الله.

وفي الوقت نفسه، تستمر الحرب الأهلية، تارة باردة وطوراً ساخنة بين منظمات الإسلام السياسي وبين بعض الأنظمة العربية، من دون أن يبدو في الأفُـق أن ثمّـة مخرجاً ديمقراطياً ما لهذا المأزق: فلا الأنظمة في وارد الاحتكام إلى سلطة الشعب لتقرير مصير الجميع ولا المنظمات أوحت أنها يُـمكن أن ترضخ لقوانين اللّـعبة الديمقراطية، التي تفترض القبول بالآخر، كما هو (حتى ولو كان غير مؤمن)، كشريك مضارب في هذه اللعبة.

ثم تأتي العوامل الإقليمية والدولية، لتسكب المزيد من الزيت على نار هذه الحروب الأهلية. فتعثّـر التدخل الأميركي في العراق وقبله في أفغانستان، أسفَـر عن ميزان قوى رجراج في الشرق الأوسط ومكّـن إيران وبعض المنظمات الإسلامية من الإنتقال من الدّفاع إلى الهجوم، كما أن رفض إسرائيل الدّائم لعروض السلام، التي يقدّمها منذ عام 2002 quot;محور الاعتدالquot; العربي، مكّـن هو الآخر المِـحور الآخر من تعزيز وبلورة منطق المقاومة ومن مواصلة صعوده المستمر منذ عام 2006.

والآن، تأتي الحرب الإسرائيلية في غزّة لتُـضيف فصلاً آخر على هذه الحروب الأهلية، لكنه فصل خطير هذه المرّة، لأنه يستهدف كأمر واقِـع تغيير الأنظمة، خاصّة في مصر، وهذا ما لم يحدُث في حرب لبنان عام 2006، حيث اكتفت أطراف الحروب الأهلية آنذاك بتبادل اتِّـهامات التواطؤ والمُـغامرة، من دون الدّعوة إلى تغيير الأمر الواقع الرّاهن.

تصعيد خطير

هذا البعد الإقليمي لحرب غزّة يُنذر بتصعيد خطير في وتيرة الحروب الأهلية العربية والإسلامية، ويهدّد في الوقت ذاته، بإعادة إشعال الحرب الأهلية الفلسطينية بشكلٍ أخطرَ هذه المرّة من أيّ وقت مضى.

فالنظام المصري لن يقبَـل أن يقِـف مكتوف الأيدي وهو يتعرّض إلى هذه الضغوط الهائلة في كل المنطقة، خاصة وأنه يُطِـل على حماس بصفتها مجرّد امتداد مسلّح لخصمِـه الرئيسي في الدّاخل المصري، جماعة الأخوان المسلمين، وكذا ستفعل حليفته السعودية ونصيره الفلسطيني في رام الله السلطة الفلسطينية.

وفي المقابل، لن تقِـف إيران وسوريا أيضاً مكتوفتَـي الأيدي وهي ترى حليفها الحماسي يتعرّض إلى الاستفراد والذّبح.

والحصيلة؟ يُـفترض أن تكون واضحة: الحروب الأهلية العربية والإسلامية ستتكثّـف كلّـها في غزّة، وبدلاً من أن تكون فلسطين وإنقاذها هي الهدف، ستُـصبح هي الوسيلة لتصفِـية الحسابات وتغيير موازين القِـوى.

لكن، إلى متى يُـمكن أن تستمر مثل هذه الحروب المدمِّـرة وما هي السيناريوهات المُـحتملة، التي قد تُـفرزها في نهاية المطاف؟

ثلاثة سيناريوهات

يمكن تصوّر ثلاثة سيناريوهات: الأول، ينتصر فيه محور إيران - سوريا، فيؤدّي ذلك إلى تغيير شامل في طبيعة التركيبة الدولية الرّاهنة لنظام الشرق الأوسط، لا تعود فيه الولايات المتحدة القوة العظمى الوحيدة المسيطرة على المنطقة.

الثاني، ينتصِـر فيه المحور العربي quot;المعتدِلquot; فتنحسر إيران إلى داخِـل حدودها القومية، ويفرض عليها بعد ذلك حصار شِـبه كامل، تمهيداً لإسقاط نظامها.

والثالث، يعجز فيه أي طرف عن تحقيق نصر كاسح أو واضح، فتستمرّ الحروب الأهلية إلى سنوات أو ربما عقود عدّة مُـقبلة.

ربّـما لاحظنا هنا أننا لم نُـورد سيناريو رابعاً يمكن بموجبه للمُـعسكرَيْـن المُـتصارعين أن يتوصّـلا إلى حلول وسط، ينبثق منها نظام إقليمي إسلامي (عربي ndash; إيراني - تركي) جديد، وهذا لسببين مُـقنعين:

الأول، أن هذه التسوية الإقليمية تفترض أن تتوافر قبلها تسوية دولية يُـتّـفق فيها على ترتيبات أمنية وإستراتيجية لكل منطقة الشرق الأوسط، وهذا أمر غير وارِد (ليس بعدُ على الأقل)، طالما أن الولايات المتحدة ترفُـض أن يشاركها أي طرف دولي في الْـتِـهام كعكة المنطقة، بما فيها حتى الأمم المتحدة.

والثاني، أن إسرائيل أيضاً لا تقبل أن تكون على قَـدَم المُـساواة مع أطراف إقليمية أخرى في أي تنظيم جديد، وهي ستواصل العمل لضمان استمرار تفوّقها وسيطرتها على كل دول الشرق الأوسط مجتمعة.

وفي ظل مثل هذه الأوضاع، التي يتقاطع فيها على نحو سِـلبي ما هو دولي مع ما هو إقليمي، ستبقى اليَـد العُـليا للمجابهات على التّـسويات، ولعبة الحصيلة صِـفْـر (حيث النصر الكامل لطرف، يجب أن يعني الهزيمة الكاملة للطَـرف الآخر)، على لُـعبة الحلول الوسط.

آثار أقدام هذه الحقيقة مُـبعثرة في كل مكان تقريباً: في العراق، حيث يتم التنافس بـ quot;مختلف الأسلحةquot; بين المعسكريْـن على قلوب العراقيين وجيوبهم. وفي لبنان، حيث تتوزّع الحركات quot;الآذاريةquot; (نسبة إلى شهر آذار) بالعدل والقسطاس بين المحوريْـن الإيراني والعربي quot;المعتدلquot;. وفي فلسطين، المنشطرة والمعذبة، وبالطبع في سوريا، التي عاد الصِّـراع quot;عليهاquot; بأشدّ ممّـا كان في خمسينيات القرن العشرين.

كل معركة من هذه المعارك مهمّـة، حيث كسب واحدة منها في غزّة أو لبنان أو العراق، قد يؤدّي إلى تداعي أحجار quot;الدّومينوquot; الأخرى، لكن الحلقة الأهم كانت ولا تزال سوريا، التي تشكِّـل بالفعل واسطة العقد في كل المجابهات الرّاهنة والتي سيحدّد مستقبلها أو مستقبل توجّهاتها، مصير كل الصِّـراعات الراهنة في منطقة الهلال الخصيب.

هل هذه لوحة متشائمة لعالم عربي - إسلامي منقسِـم على نفسه بنفسه ولمصلحة غيره؟ نعم بالتأكيد، لكنها، من أسف، لوحة واقعية!

سعد محيو