تونس: رغم أن سنة 2009 الجارية هي سنة الانتخابات الرئاسية والتشريعية التي ستنظم خلال شهر أكتوبر أو نوفمبر القادم، إلا أن الأوساط السياسية التونسية لا تزال تتعامل مع هذا الاستحقاق الهام بنوع من الفتور.
وفيما يرى البعض أنها قد تكون في حالة بحث عن أفضل الوسائل التي تـُمكن كل حزب من تحقيق مكاسب أقصى، لا تزال الأوساط السياسية والمعارضة بالخصوص تحت وقع التشدد الذي أظهرته السلطة مؤخرا في تعاملها مع أكثر من ملف، وفي مقدمتها ملف معتقلي أحداث الحوض المنجمي (جنوب غرب البلاد).
في الواقع، يبدو أن السلطة لا تربط بين ملف الحريات وملف الانتخابات، وهو ما تجلى بوضوح في الأسابيع الأخيرة. فالذين توقعوا بأن تكون السنة السياسية الحالية سنة انفراج ولو محدود على صعيد الحريات، بوغتوا بسلسلة من الإجراءات والقرارات المناقضة تماما لتوقعاتهم.
فبعد إعادة اعتقال ومحاكمة الصادق شورو، الرئيس السابق لحركة النهضة المحظورة بعد شهر واحد من الإفراج عنه إثر اعتقال استمر 17 عاما ونيف، جاءت الأحكام القاسية التي صدرت في حق الذين اتـُهموا بالوقوف وراء أحداث الحوض المنجمي، والتي تراوحت بين عامين وثماني سنوات في مرحلة الإستئناف، ثم تمت مصادرة أحد أعداد صحيفة quot;الطريق الجديدquot; الناطقة باسم حركة التجديد (الحزب الشيوعي سابقا) المعارضة، كما اتخذ قرار ضد إذاعة quot;كلمةquot; التي تديرها الصحفية والناشطة الحقوقية سهام بن سدرين، والتي تبث من إيطاليا عبر شبكة الأنترنت والقمر الصناعي quot;هوتبيردquot;.
وبين مختلف هذه الوقائع، سجلت مجموعة أخرى من الأحداث التي تصب في اتجاه واحد سمته استمرار التشدد مع من تتهمهم الصحف الموالية للحكم بـ quot;العمالة للخارجquot;.
quot;تشدد هيكليquot;
من تلك الأحداث التي أثارت الاستغراب ما حصل للاجئ السياسي بألمانيا السيد مرسل الكسيبي، الذي بعد أن ظن بأن ملفه قد سُـوّي، حيث تمكن من الدخول إلى تونس في مناسبتين من دون أن يعترضه أي إشكال، وهو ما جعله يكتب بإيجابية عن تونس وعن نظام الحكم، لكنه عندما قبل النصيحة وقام بالإعتراض على القضايا الغيابية التي تعلقت به أمام القضاء في وقت سابق، إذا به يفاجئ بأحكام بالسجن تصدرها المحكمة التي نظرت في الاعتراض، مما جعله يتوجه مباشرة إلى المطار، ويعود لاجئا كما كان وهو لا يكاد يصدق بأنه قد نجا من اعتقال كاد أن يغير مجرى حياته. وبطبيعة الحال، تعرض للسخرية والهجوم من جميع الذين كان يُحاول من قبل إقناعهم بأهمية المراهنة على المصالحة مع النظام.
بسؤاله عن قراءته لكل هذه المؤشرات التي تلاحقت في الفترة الأخيرة، لاحظ السيد حاتم الشعبوني، عضو الهيئة السياسية بحركة التجديد المعارضة، أن تراكم هذه الوقائع السلبية جاء في أعقاب وقائع أخرى إيجابية، مشيرا بالخصوص إلى التسامح الذي تعاملت به السلطة مع المعارضة ومنظمات المجتمع المدني، والذي بلغ حد السماح للأحزاب والجمعيات quot;المغضوب عليهاquot; بتنظيم مسيرات تضامنية مع غزة. لكن الشعبوني اعتبر في المقابل أن هناك ما وصفه بـ quot;التشدد الهيكليquot;، المتمثل حسب رأيه في quot;استمرار وضع سياسي يتميز بهيمنة الحزب الحاكم والتحكم في الإعلام والتضييق على كل قضاء مستقلquot;.
أما عن كيفية الربط بين هذه المؤشرات والانتخابات القادمة، يؤكد حاتم الشعبوني أيضا أنه لا توجد حاليا quot;تحويرات جوهرية من شأنها أن تفتح المجال لكي تكون الانتخابات القادمة انتخابات حقيقية تقوم على المنافسة والتشويقquot;. ويضيف قائلا: quot;ليست هناك مؤشرات حول توفر إرادة سياسية لتغيير هذا الوضع الذي يتطلب تنقية الأجواء بإطلاق سراح من حوكم من أجل آرائه وتحركاته المشروعة، وكذلك تحرير الإعلام وتحوير جدي للمجلة الانتخابيةquot;.
خبر غير مؤكد... ودكاكين سياسية
سياسي آخر، لم تفاجئه الوقائع التي تم سردها أعلاه، ورأى فيها تكرارا لسيناريو سابق يفترض بأنه أصبح معروفا لدى الجميع. وهو سيناريو قائم على المعادلة التالية: يجب التشدد في البداية من أجل خلق حالة سياسية يمتزج فيها القلق بالانتظار، ومع اقتراب موعد الانتخابات يقع فسخ ما سبق، وتتخذ إجراءات تعيد الوضع إلى ما كان عليه، وتعيد الأمل للأوساط السياسية الحائرة.
ويلتقي هذا الرأي مع خبر غير مؤكد راج في الفترة الأخيرة، يزعم أصحابه بأن هناك في الأفق احتمال صدور عفو رئاسي قد يشمل عددا واسعا من مساجين الحق العام، إلى جانب من حُوكم في قضايا رأي مثل معتقلي quot;الحوض المنجميquot;، ولا يُعلم إن كان ذلك سيشمل الدكتور الصادق شورو أم لا. ومن المؤكد أن هذا الاحتمال - إن صحّ - هو الذي ينسجم مع مقتضيات الانتخابات القادمة التي ستمثل بكل المقاييس محطة هامة في سيرورة الحزب الحاكم، وقد تشكل مدخلا لتدشين مرحلة سياسية جديدة يُحتمل أن تتبلور معالمها خلال السنوات الخمس القادمة.
من جهة أخرى، لم تتبلور بعد معالم التكتيك الانتخابي لدى مختلف الفرقاء السياسيين، سواء بالنسبة لما يوصف بـ quot;الأحزاب البرلمانيةquot; (أي الممثلة بعضو واحد على الأقل في مجلس النواب) أو تلك المنضوية تحت مظلة quot;حركة 18 أكتوبرquot; (تضم أحزابا معترفا بها لكنها غير ممثلة في البرلمان وأخرى محظورة).
ومع أن الجميع مشغولون بترتيب أوضاعهم الداخلية، إلا أنه من المتوقع أن تتجه أغلب الأحزاب نحو المشاركة الفردية في الانتخابات التشريعية، وذلك بعد الفشل الكبير الذي منيت بها جميع تجارب التنسيق الثنائية أو الثلاثية في المراحل السابقة، ما أكد أن عقلية quot;الدكاكين السياسيةquot; تغلبت على ثقافة التحالف والعمل المشترك أو الجبهوي.
مقترح طريف
في هذه الأجواء، تقدم رئيس حركة الديمقراطيين الاشتراكيين، السيد إسماعيل بولحية، بفكرة تشكيل ما أطلق عليه quot;الأغلبية الرئاسيةquot;، أي تكوين تحالف واسع لدعم البرنامج السياسي للرئيس بن علي الذي سيستند عليه في حملته الانتخابية القادمة.
هذه الفكرة التي وصفها البعض بـ quot;الطريفةquot; تدفع في اتجاه التخفيف من حدة هيمنة الحزب الحاكم على الحياة السياسية، وتشجيع الرئيس التونسي على الانفتاح على أطراف سياسية أخرى مؤيدة له وتشاطره الرؤية والتوجه، إضافة إلى كونها قد تفتح الباب أمام احتمال تعيين وزراء من خارج دائرة التجمع الدستوري الديمقراطي، بعد تجربة تعيين وزير مستقل في الحكومة (الراحل محمد الشرفي من 1989 إلى 1994)، أو سفراء من بعض الأحزاب البرلمانية (حركة الديمقراطيين الاشتراكيين والاتحاد الوحدوي الديمقراطي)، وهي الخطوة التي سبقتها تعيين كوادر عليا فيما يصفها البعض بـ quot;أحزاب الوفاقquot; على رأس مؤسسات أو شركات تابعة للقطاع العام.
ولعل المشكلة التي تعاني منها الخارطة السياسية التونسية، تتمثل أساسا في أن واقع الأحزاب السياسية منفصل كليا عن حجمها الحقيقي وإمكانياتها الفعلية. ولهذا فإن حجم مشاركتها في المؤسسات البينية، بما فيها المؤسسات الدستورية، لا يعكس تمثيليتها الحقيقية على الميدان، حيث لم تتوفر في المرحلة السابقة الشروط الطبيعية التي من شأنها أن تحقق تنمية حزبية حقيقية.
بساطة.. وتعقيد.. وquot;حركيةquot; بطيئة
إذا كان المشهد السياسي العام بقي ثابتا، حيث يستبعد السيد هشام الحاجي، عضو المكتب السياسي لحزب الوحدة الشعبية، أن تؤدي الانتخابات القادمة إلى quot;عملية فرز جديدةquot;، وبالتالي فإن موازين القوى quot;لن تشهد تغييرا يذكرquot; حسب رأيه، فإن المشهد الإعلامي الرسمي قد طرأ عليه شيء من التغيير الذي يحتاج إلى وقفة.
لم تنفتح وسائل الإعلام السمعية والبصرية على المعارضة أو نشطاء المجتمع المدني والوجوه المستقلة، فهذه الخطوة لا تزال بعيدة فيما يبدو، لكن ما حدث هو الانطلاق في بث برامج جديدة شدت اهتمام الجمهور العريض. هناك تساؤلات حول من يقف وراء هذه البرامج أو بعضها، لكن من الواضح أنها أزالت شيئا من الكآبة عن الإعلام الرسمي المتجهم، وبدأت تخفف من عزلة الإذاعة والتلفزيون، وقد تقلل شيئا ما من منافسة الفضائيات الشرقية.
من هذه البرامج الجديدة برنامج يحمل عنوان quot;نقاط على الحروفquot; في قناة حنبعل الخاصة. وقد شكلت الحلقة الأولى مفاجأة للجمهور السياسي، إذ لأول مرة منذ أواخر الثمانينات تعطى فيها الكلمة في قناة تلفزيونية محلية لمثقف تونسي مستقل هو السيد محسن مرزوق (يتحمل حاليا مسؤولية الأمانة العامة للمؤسسة العربية للديمقراطية ومقرها الدوحة) إلى جانب مثقف عربي يقيم في تونس (د. عبدالله تركماني من سوريا)، ليدليا برأيهما في موضوع العلاقة بالإسلاميين.
وخلافا للكثيرين، أكد ضيفا الحلقة على أنه بالرغم من خلافهما مع الحركات الإسلامية من منطلق سياسي وأيديولوجي، إلا أنهما اعتبراها واقعا قائما يجب التعامل معه بشكل ثقافي وسياسي، أي ضمنيا عدم التعاطي معها أمنيا. ولا شك في أن حلقة من هذا النوع، يتم بثها بدون استعمال المقص الشهير قد تجعل منها quot;اختباراquot; في ملامسة ما كان ولا يزال يعتبر quot;خطوطا حمراءquot;.
كما أن قائمة ضيوف الحلقات القادمة قد تحمل مفاجئات غير متوقعة، بعد أن تم الاتصال بالباحث الشاب سامي براهم، ذي التوجه الإسلامي المستنير، والدكتورة المستقلة في تفكيرها وانتمائها آمال غرامي، المختصة في الإسلاميات. وهذا يعني أن نافذة تفتح على خيار إعلامي جديد وجاد.
هكذا يبقى الوضع التونسي شديد البساطة مقارنة بحالات مشابهة عربيا، لكنه يحمل في طياته - في الآن نفسه - شيئا لا بأس به من التعقيد. ومع أن طابعه المهيمن هو التشدد الأمني والتعامل الصارم مع الخصوم، إلا أنه يكتنف داخله في المقابل نوعا من quot;الحركيةquot;، التي قد تكون بطيئة أو غير بادية للعيان غير أنه قد يكون من الخطإ إهمالها وعدم أخذها بعين الاعتبار.
صلاح الدين الجورشي
التعليقات