جنيف: ما الرابط بين إعادة تشكل الهوية الوطنية اللبنانية بعد الحرب الاهلية، وملف اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، وكيف تتطور العلاقة بين المجتمع الاهلي في لبنان وسكان المخيمات عبر مناطق البلاد المختلفة. هذه القضايا وغيرها يحللها عالم الإجتماع والعلوم السياسية السويسري دانيال مايير في كتابه الصادر حديثا quot;الزواج والهوية الوطنية في لبنانquot;.
ولإلقاء مزيد من الضوء على هذا العمل الاكاديمي وربطه بالتطورات السياسية في لبنان، تم الحوار مع صاحب الدراسة دانيال مايير، خبير متخصص في الشؤون اللبنانية وقضايا الشرق الأوسط، واستاذ محاضر بالمعهد العالي للدراسات الدولية للتنمية بجنيف.
الزواج المختلط والهوية اللبنانية، ما هي أبرز النتائج التي توصلت إليها في هذه الدراسة؟ وما أوجه الطرافة فيها؟
اكتشفت من خلال هذه الدراسة أنه وعلى النقيض مما يحمله الخطاب السياسي الرسمي والحزبي من تشدد تجاه اللاجئين الفلسطينيين، فإن العلاقة بين المواطنين من الجنسيتين أكثر تسامحا وانفتاحا. أنا أتحدث هنا على المستوى الأدنى من العلاقات الاجتماعية، أي مستوى الأفراد والعائلات. على المستوى السياسي، نجد خطابا يناهض التوطين، ويدعو إلى عودة اللاجئين إلى القرى التي هجّروا منها، وكذلك رفض منح الفلسطينيين أي حقوق حتى لا يفتح الباب للتوطين.
والمفارقة، هنا أن الفلسطينيين في العديد من البلدان العربية الأخرى حصلوا على الحد الأدنى من الحقوق الأساسية، ولم يؤدي ذلك إلى ما يخشاه الساسة اللبنانيون. في هذا المستوى الخطاب اللبناني لا يخلو من مضامين إيديولوجية، وهو رد فعل على الضغوط التي تمارسها على لبنان خاصة الولايات المتحدة منذ انطلاق قطار التسوية مع مفاوضات أوسلو. كما يجد هذا الخطاب جذوره لدى الكتائب (طائفة مسيحية تدعو إلى طرد الفلسطينيين من لبنان) والمفاجأة الكبرى التي توصلنا إليها هو أن ثلث اللاجئين الفلسطينيين في لبنان لديهم علاقات مصاهرة مع العائلات اللبنانية، وهي علاقات واسعة وممتدة بعضها قديم وبعضها الآخر حديث. وإحدى النتائج أيضا هو هذا الاختلال الكبير بين مفردات الخطاب السياسي، ومعطيات الواقع الاجتماعي الميداني.
لهذا إذن اخترتم مسألة الزواج المختلط بين الفلسطينيين واللبنانيين مدخلا لرصد التحوّلات العميقة التي يمر بها المجتمع اللبناني ما بعد الحرب الأهلية؟
اخترت هذه الطريقة للوصول إلى فهم دينامية المجتمع اللبناني ما بعد الحرب الأهلية، وهي أيضا محاولة للاقتراب من مدلول مقولة quot;نحن اللبنانيونquot;. نسمع كثيرا عن التوترات الطائفية في لبنان. وقام الكثيرون بدراسة هذا الموضوع، لذلك أردت إستكشاف تخوم أخرى، التخوم التي تفصل اللبنانيين عمن يعدون أجانب في لبنان، واعتقدت أن أفضل حالة للدراسة هي الحالة الفلسطينية، أولا، لأن الفلسطينيين لاجئون سياسيون في الأساس، وثانيا، لأنهم الأجانب الأقدم في لبنان، وعلى خلاف الأرمن الذين وفدوا إلى لبنان في العشرينات من القرن الماضي، لم يحصل الفلسطينيون على حق المواطنة، ولم يسمح لهم بالاندماج الاجتماعي.
حاولت إذن من خلال تتبع التسلسل التاريخي للعلاقة الواصلة والفاصلة بين اللبنانيين والفلسطينيين في لبنان، التعرف على منعرجات هذه العلاقة، وتبيّن لي بعد الدراسة، أن اللبنانيين كانوا ينظرون إلى الفلسطينيين كلاجئين منكوبين، وكمصدر محتمل لإثارة الشغب والتوتر، وتواصل هذا الأمر إلى حين إبرام اتفاقية القاهرة سنة 1969، حينما تحوّل اللاجئون إلى قوة سياسية يحسب لها حساب، وطرفا رئيسيا في المعادلة اللبنانية، ولن يتغيّر هذا الوضع إلا مع الغزو الإسرائيلي للبنان سنة 1982، وتلقي منظمة التحرير الفلسطينية ضربة قوية، حين أجبرت قيادتها على مغادرة بيروت إلى تونس. عندئذ بدأت دورة جديدة من تهميش الفلسطينيين، وتجسدت هذه السياسة المتشددة ضد اللاجئين في صدور العديد من القوانين في بداية التسعينات تمنع الفلسطينيين من السفر إلى الخارج، وتحد من حركتهم في الداخل، وتحدد العشرات من الوظائف التي لا يحق لهم الاشتغال بها (70 وظيفة). وفي سنة 2001، أقر البرلمان قانونا يحظر على الفلسطينيين امتلاك أراض أو عقارات، ويجبر من بحوزته شيئا من ذلك التفويت فيه.
ما علاقة هذا كله بالهوية الوطنية في لبنان؟
ما أشرت إليه يبيّن السياق السياسي الذي تشكلت فيه الهوية الوطنية اللبنانية في ما بعد الحرب الأهلية. وهذه الهوية كانت هوية سالبة، أي هوية تبنى على الإقصاء وليس المراكمة، حتى أصبح اللبناني quot;من ليس هو فلسطينيquot;. وللإنصاف، الدولة اللبنانية في تلك المرحلة كانت تحت الوصاية السورية.
في علاقة دائما بمحور الدراسة، ما هي أبرز التحوّلات التي مر بها المشهد السياسي اللبناني ما بعد الحرب الأهلية؟
المعطى الأهم في هذا المستوى هو توجّه وميل المجتمع اللبناني بعد الحرب الأهلية إلى النظام العلماني، وتبيّن لنا أن فئات اجتماعية واسعة كانت تعيش في بيروت، وفي المراكز الحضرية الكبرى قد أبدت ميلا متزايدا للانفتاح على الأجانب، والتواصل إلى حد المصاهرة من خارج الانتماء الطائفي. وقد تعاظمت هذه الظاهرة مع انتشار التعليم الجامعي الذي كان يؤمه، وإن اختلفت النسب جميع اللبنانيين أو المقيمين في لبنان. هذا الوضع ساعد على بناء علاقات متحررة من قيود الطائفية. وبصفة عامة، علاقات المصاهرة بين اللبنانيين والفلسطينيين تتجلى بوضوح أكبر لدى السنّة في الشمال ولدى الشيعة في الجنوب. ورغم تشكي هولاء الأزواج من العراقيل والصعوبات، فإنهم يبدون تحديا ومقاومة لها، وإن ظل تاريخ الصراع الطائفي يلقي بظلاله على هذه العلاقات.
كيف تستمر وتتواصل هذه الزيجات المختلفة إذا ما علمنا اختلاف السياقين التاريخيين الفلسطيني واللبناني؟
تحافظ هذه الزيجات على بقائها لسببين: عندما يتعلق الأمر بالحياة داخل المدن، تستطيع الأجيال الجديدة أن تتحرر وتنفك من قبضة الطائفية، وبالإمكان القول أن الحياة في المدن تشجع هذا النوع من quot;العلاقات غير الطبيعيةquot; بالمفهوم اللبناني. والدائرة الطائفية أصبحت لدى الأجيال الجديدة رديفة الصراعات والحروب والمتاعب. من ناحية أخرى، يكتب لهذه العلاقات الاجتماعية بين اللبنانيين والفلسطينيين البقاء أيضا، لأن نسبة هامة منها تظل مع ذلك من داخل الطائفة الواحدة. على الأقل في الحالة السنية. ونتذكّر هنا أن العلاقة بين الفلسطينيين والسنة في شمال لبنان كانت دائما جيّدة.
اما في الحالة الشيعية، فهناك أيضا بعدا تاريخيا للعلاقة مع الفلسطينيين، يعود إلى ما قبل النكبة عندما كان لبنانيو الجنوب يعملون في التجارة عبر الحدود، أو في قطاع الزراعة في منطقة الجليل، والكثير من العائلات التي كانت تسكن المناطق الحدودية لازالت تحتفظ بعلاقات متينة وقوية. في الحالتين الشيعية والسنية، وللمفارقة، بقدر ما يشكل التاريخ تحديا لهذه الزيجات، يعززها ويقويها أيضا.
ما هي المعضلات والعراقيل القانونية التي تعرقل انتشار هذا النوع من الزيجات في لبنان؟
من المعضلات القانونية التي تواجه الزواج المختلط في لبنان نجد أوّلا، صعوبة إنجاز عقد زواج مدني، ومعنى هذا أنه يفترض في الزوجين أن يكونا من طائفة واحدة، وفي حالة الزواج المختلط، لابد من عقد القران بالعودة إلى هذه المرجعية الطائفية أو تلك، مما يعني التحاق احد الزوجين بطائفة أو ديانة الطرف الثاني. وعادة ما تبادر المرأة إلى القيام بذلك. ولكن، يحدث أن يحصل العكس لكون الرجل من عائلة لا تعير اهتماما كبيرا للانتماء الديني. والمعضلة الثانية، هو وجود مجموعة من القوانين التي تحظر على الفلسطيني العمل في مجالات معينة، ولا تمنح الجنسية للفلسطيني الذي يتزوّج لبنانية، لأن حق المواطنة يمر عبر سلالة الرجل وليس المرأة، ومعنى هذا أن أبناء اللبنانيات لا يحصلون على جنسية بلادهم، وإذا تعلموا لا يحق لهم العمل في مجالات معينة، حتي لو توفّرت لهم كل الكفاءات المطلوبة. وهكذا يصبحون في حكم اللاجئين في بلادهم.
كيف تساهم هذه الظاهرة في إعادة رسم الحدود بين الطوائف المختلفة داخل المجتمع اللبناني؟
هذه الزيجات مثل كل الزيجات المختلطة بين أهل البلد والأجانب، تساهم في تعزيز قيم الانفتاح والتسامح، مع الانتباه، إلى أننا لا نتحدث هنا عن المجتمع الفرنسي، بل عن المجتمع اللبناني بنمطه الثقافي الشرقي، حيث أن الزواج يعني العائلتيْن بأكملهما وليس الزوجين فقط، وكل من اختار خوض هذه المغامرة يعلم مسبقا إنها ليست سهلة، وتتطلب قبول العائلة أيضا بالزوج أو الزوجة الأجنبيين.
ومما لاشك فيه أن هذا يساعد إلى حد كبير في عملية إعادة رسم حدود الانتماء الطائفي، ويوسع مجال المجتمع المدني، وينشر قيم التعارف، وهذه الظاهرة إيجابية لكونها تزيد في تماسك المجتمع. وفي حالتنا هذه، كلما انتشر الزواج المختلط بين الفلسطينيين واللبنانيين في لبنان، كلما أصبح من الصعب على القيادات اللبنانية وسم الفلسطينيين بالشيطنة، وتحميلهم المسؤولية عن كل مصائب لبنان.
هل تتفق مع من يقولون أن توطين اللاجئين الفلسطينيين في لبنان يشكل خطرا على التوازن الديمغرافي والتوزع الطائفي في لبنان؟
من دون أدنى شك، يوجد في لبنان مشكل طائفي وديني، وفي هذا السياق، الجواب، نعم، نعم.. توطين الفلسطينيين يعرض التوازن الطائفي في لبنان للخطر، وهذا الأمر تؤكّده الإحصاءات، وإذا ما حصل ذلك، ستصبح الطائفة السنية، الطائفة الثانية في لبنان، مباشرة بعد الطائفة المارونية، أو ربما بعد الطائفة الشيعية. لكن علينا أن نبحث عن منبع هذه المخاوف، وأعتقد أن منشؤها يعود في الأساس إلى الميثاق الوطني وإلى ما ورثه لبنان عن نظام الحماية الفرنسي، الذي استمدت منه بنود الدستور اللبناني. هذا الدستور الذي يعطي أهمية استثنائية للانتماء الطائفي في المجال السياسي، وجعل حصة كل طائفة متناسبة مع حجمها العددي، فإذا كان اليوم رئيس لبنان مسيحي ماروني، فذلك لأن الإحصاء الذي أجري سنة 1932، وهو الأوّل والأخير في لبنان، أثبت أن المارونيين هم الطائفة الأكبر في البلاد، يتلوهم الشيعة، فالسنة.
هذه المعادلة الطائفية تغيّرت اليوم، وأجزم بأنه لو أجري إحصاء جديد في لبنان، لانقلبت كل الموازين في السياسة اللبنانية، ولأصبحت مشكلة توطين الفلسطينيين مسالة ثانوية، ولن تكون لها أي انعكاسات خطيرة. لهذا السبب تحديدا لا احد في لبنان يريد أن ينظم إحصاء جديد، ويفضّلون بدلا من ذلك التحرك وفق وَهْمٍ ينظر إلى نظام الحصص الطائفية كنوع من المعادلة السحرية الضامن الوحيد لبقاء الدولة اللبنانية.
مشكلة اللاجئين، هل هي على اجندة الحوار الوطني القائم اليوم في لبنان؟
لا تحضر المشكلة الفلسطينية في هذا الحوار إلا في بعدها الأمني، ومن خلال دعوة الأطراف اللبنانية إلى تجريد جميع الفصائل الفلسطينية في لبنان من السلاح، وفي هذا تناسقا مع ما يدعو إليه قرار الأمم المتحدة رقم 1559. لكن المسالة الفلسطينية مطروحة اليوم في لبنان أيضا في علاقة بمشكلة إعادة إعمار مخيم نهر البارد الذي دمّر في مواجهات عنيفة بين إسلاميين متشددين من quot;فتح الإسلامquot;، والجيش اللبناني قبل سنة ونصف. وتعزو السلطة اللبنانية تأخر عملية البناء إلى عدم وفاء الدول المانحة بتعهداتها التي قطعتها على نفسها خلال مؤتمر برلين السنة الماضية. خارج هذين الملفين لا احد يبدو مهتما بوضع اللاجئين.
رغم صدور العديد من التقارير الحكومية وغير الحكومية عن الأوضاع المأساوية التي يعيشها اللاجئون الفلسطينيون في لبنان، لا يبدي المجتمع الدولي أي اهتمام، لماذا؟
هذا الأمر أصبح روتينيا، عندما تصدر تقارير مخيفة عن وضع مأساوي هنا أو هناك، نادرا ما يتحرك المجتمع الدولي بالسرعة المطلوبة. ونعلم الآن انه لا وجود لعلاقة سببية مباشرة بين تدخّل المجتمع الدولي، وصدور تقارير المنظمات الإنسانية. تدخل المجتمع الدولي مرهون بمتغيرات كثيرة، ونظرا للازمة الاقتصادية التي يمر بها العالم اليوم، لا يبدو أن الدول المانحة ستستعجل أمرها ما لم يتعلق الأمر فعلا بقضية مجاعة أو بانتشار وباء مدمّر. وبالنسبة للفلسطينيين، البعض على الساحة الدولية بدؤوا يعتقدون أن هذا الشعب قد تعوّد على التكيّف مع الأوضاع الصعبة. مع العلم أننا لما زرنا أخيرا نهر البارد، وجدناه يشبه ستالينغراد بعد الحرب العالمية الثانية. لا اعتقد أن أصحاب القرار هنا في الغرب تصوّروا يوما ما كيف يمكن أن يعيش عشرون فردا داخل غرفة واحدة في مخيم نهر البدّاوي.
ما تأثير المساعدات التي تقدمها المؤسسات السويسرية كالوكالة السويسرية للتنمية والتعاون، والأكاديمية السويسرية للتنمية على الأوضاع المعيشية لهؤلاء اللاجئين؟
كل هذه البرامج وخطط العمل مفيدة، وعلينا الا نشك يوما في جدواها.ورغم ان ما تقدمه سويسرا تأثيره بسيط جدا ومحدود في الزمان والمكان، ولا يمس سوى فئة قليلة من اللاجئين، ومع ذلك اكرر هذا مفيد ومجدي. علينا ان نعترف ان سويسرا ليس بإمكانها أن تفعل الشيء الكثير، فهي محدودة الحجم والموارد، ولو قامت جميع البلدان بما تقوم به سويسرا، وكل بحسب موارده، لتم إعمار نهر البارد منذ زمن بعيد.
رغم مرور 61 سنة على تهجيرهم من مدنهم وقراهم، لا يزال اللاجئون الفلسطينيون متمسكين بحق العودة. هل يمكن ان يأتي يوم يعودون فيه إلى وطنهم؟
اللاجئون الذين تحدثت معهم في إطار هذه الدراسة لا يخفون رغبتهم في العودة إلى القرى التي هجّر منها آباؤهم. وغالبية الموجودين في لبنان ينحدرون من منطقة الجليل. واليوم هذه المنطقة تم ضمّها إلى إسرائيل، وليست جزءٍ مما يسمى الأراضي المحتلة كالضفة الغربية وقطاع غزّة. وبالتالي العودة إليها مسألة صعبة ومستبعدة. ما يأمل اللاجئون الحصول عليه هو quot;حق العودةquot;، أي الاعتراف بانتمائهم لتلك الأرض، وليس بالضرورة ممارسة هذا الحق. كأن لسان حالهم يقول: quot;لو حصلنا على هذا الحق لقمنا بزيارة تلك القرى للوقوف على الحال التي أصبحت عليهاquot;. وارى انه من الطبيعي ان يقول الفلسطينيون هذا، لأن غالبيتهم لم يروا منذ ولادتهم أرضا غير الأرض اللبنانية.
التعليقات