صنعاء: طغى على المشهد اليمني في الآونة الأخيرة أحداث ومنغصات باتت تعكر صفو الحياة السياسية والاجتماعية والأمنية وينظر إليها أنها مؤشرات تنطوي على مخاطر تهدد مستقبل الوحدة اليمنية وتعيد تأزم الأوضاع في جنوب وشمال البلاد على حد سواء.ثمانية قتلى في مواجهات جنوب اليمن خلال ستة أيام
ففي المحافظات الجنوبية الشرقية التي كانت تشكل ما يعرف باليمن الديمقراطي حتى قيام دولة اليمن الموحدة في 22 مايو عام 1990 الحراك في المناطق الجنوبية في تصاعد وما يرفعه من مطالب وشعارات ضد الوحدة والدعوة إلى الانفصال، وفي شمال الشمال وتحديدا في محافظة صعدة التي شهدت منذ العام 2004 خمس حروب بين القوات الحكومية والمتمردين من أتباع رجل الدين الحوثي عادت طبول الحرب تُقرع من جديد منذرة بحرب سادسة خاصة مع تزايد إطلاق الإتهامات المتبادلة بين الحكومة والمتمردين بخرق اتفاق وقف الحرب الذي أعلنه الرئيس علي عبد الله صالح في يوليو من العام الماضي والذي اعتقد حينها أنه سيؤدي إلى إغلاق ملف الحرب نهائيا في هذه المنطقة.
وعلى ما يبدو فإن الحراك في المناطق الجنوبية هذه المرة لم يعد مجرد تأطير لقضايا مطلبية تتعلق بالحقوق والاستحقاقات التعاقدية للمحتجين بل إن هذه القضايا أخذت تتوارى فيما طغت على السطح نبرة المطالبة من قبل الفعاليات الاحتجاجية باستقلال ما يطلق عليه قادة الحراك quot;الجنوب العربيquot; (وهو المسمى الذي كان يُطلقه المستعمر البريطاني على المناطق التي كان يحتلها في اليمن حتى يوم الجلاء عنها في 30 نوفمبر 1967) عن هيمنة الشمال.
وقد تزامنت تلك الدعوات بعودة قوية لخطاب المعارضين في الخارج من المنتميين إلى الحزب الإشتراكي الذين أقصي عدد منهم من الحكم على إثر حرب 1994. وخلال الآونة الأخيرة ومع تصاعد المطالب الجنوبية ظهر عدد من تلك القيادات في وسائل الإعلام مؤيدا ومتبنيا لتلك المطالب التي يرفعها المحتجون ولم ير فيها كثير منهم (مثل الرئيس الأسبق علي ناصر محمد، ورئيس أول حكومة لدولة الوحدة أبوبكر العطاس) سوى ردّ فعل على ما لحق بالمناطق الجنوبية من إقصاء وتهميش وسيطرة على الأرض والثروة من قبل quot;المنتصر في تلك الحربquot;، فيما ظلت المعارضة في الداخل ممثلة بأحزاب اللقاء المشترك (التي توافقت مع السلطة قبل أيام على تعديل الدستور وتأجيل الإنتخابات لمدة عامين) تؤكد على أن الإحتجاجات في الجنوب quot;ليست إلا محصلة طبيعية لفساد ولسوء إدارة السلطة لمؤسسات الدولة ونهجها الإستحواذ على الثروة وتعميق الظواهر السلبية في تلك المناطقquot;.
الرئيس يُحذر.. والإحتجاجات تتواصل
في هذه الأجواء تزايدت الفعاليات المكرسة لهذا الغرض وانزلقت الاحتجاجات المنظمة والعفوية في بعض الحالات إلى أعمال شغب وعنف ضد بعض المؤسسات الحكومية، ومقرات ومراكز الشرطة والقضاء خاصة في محافظات أبين، والضالع، ولحج، وحضرموت. وتنامت مؤشرات العنف اللفظي إلى الحد الذي حدا بالبعض إلى وصفها بـ quot;تغذية لثقافة الكراهية داخل المجتمع الواحد بشكل غير مسبوقquot;، بدت من خلال حدة الخطاب ومن الرموز الدلالية التي يعبر بها المحتجون خاصة منهم القادة الميدانيين ضد كل ما يرمز للوحدة اليمنية وللسلطة أو لمناطق الشمال المسيطر كما يصفه متزعمو الحراك بكافة مسمياته وتكويناته.
وينظر المراقبون لهذه الأوضاع التي تشهدها اليمن على اعتبار أنها تحديات حقيقة تواجه هذا البلد الذي يعاني من عوائق عدة وهو ما عبر عنه صراحة الأسبوع الماضي الرئيس اليمني على عبدالله صالح عندما قال quot;عندنا همّ تنموي.. عندنا هم ثقافي.. عندنا هم صحي.. عندنا هموم كبيرة ليش نشغل أنفسنا بالقضايا الصغيرة؟ عبر عن رأيك بطرق ديمقراطية وبمسؤولية لا تخلق ثقافة الكراهية الشطريةquot;، داعيا الفعاليات المجتمعية والسياسية إلى التصدي لتلك الظواهر التي تريد العودة باليمن إلى ما قبل يوم 22 مايو 1990 وإلى ما قبل النظام الجمهوري بإشارة منه إلى حركة تمرد الحوثيين في صعدة.
وكان صالح قد ذهب في تحذيراته إلى أن مثل تلك الدعوات quot;ستقود اليمنيين إلى أن يتقاتلوا فيما بينهم من بيت إلى بيت وأنها ستحول البلاد ليس إلى دولتين بل إلى دويلاتquot;، مما عدّه كثيرون مؤشرا على مدى ما وصلت إليه الأمور في اليمن من خطورة.
ومع ذلك، فقد أعقب خطاب الرئيس اليمني تنظيم عدد من الفعاليات الإحتجاجية من جهة وتحرك لعدد من المسئولين اليمنيين من جهة أخرى بهدف احتواء الحركة الاحتجاجية التي دعا إلى تنظيمها قادة الحراك في 27 ابريل. كما لجأت السلطات إلى اتخاذ عدد من الإجراءات للحد من تأثير تلك الفعاليات، وهو ما أدى - حسب مراقبين - إلى تحجيمها مقارنة بما كان يتوعد به قادتها من مفاجآت ومرت بسلام عدا بعض الحوادث وأعمال الشغب المحدودة، لكن المخاطر تظل قائمة لاسيما وأن الإجراءات التي نفذتها السلطات ضد المحتجين لم تعمل إلا على تزايد التعاطف مع الحراك وانخراط أطراف جديدة فيه مثلما حصل مع quot;المجاهدquot; السابق في أفغانستان ورفيق أسامة بن لادن الشيخ طارق الفضلي الذي خاض حربا هو وجماعته إلى جانب السلطات ضد من أسموهم بالانفصاليين عام 1994، وظل منذ ذلك الحين من أشد حلفاء السلطة حتى أعلن منتصف شهر أبريل المنصرم عن طلاقه معها وانضم إلى موجة الحراك الجنوبي مؤكدا أن quot;ما يتعرض له الجنوب هو استعمار من قبل الشمال وأن الانفصال هو الحلquot;.
مقترحات حلول للأزمة
الأستاذ نجيب غلاب مدرس العلوم السياسية بجامعة صنعاء في تعليق له على هذه التطورات قال: quot;الانفصال ليس حلا بل على العكس سيُدخل البلاد في الفوضى الشاملة ولا يستفيد منه إلا طرفين، الأول: هو quot;تنظيم القاعدةquot; لأنه لوحق وطرد من بلدان عدة كانت تعتبر معاقله التقليدية لذلك فإن لديه إستراتيجية لترتيب صفوفه في اليمن مستفيدا من عدة معطيات طبيعية وبشرية اجتماعية، ولذلك الفوضى بالنسبة للقاعدة هو المناخ الملائم لانتشارها وتكثيف أنشطتها الجهاديةquot;.
أما الطرف الثاني المستفيد من الفوضى، كما يقول غلاب، فهو إيران، مشيرا إلى أن إضعاف اليمن بالنسبة لإيران هو إضعاف لأمن المنطقة ككل خاصة منها أمن الخليج مما يسهل لها تهديد مصالح تلك البلدان والمصالح الأميركية في هذا الحيز الجغرافي الحيوي بالنسبة لواشنطن. ولذلك فالقضية كما يراها نجيب غلاب هي أبعد من مجرد قضية سياسية مرتبطة بالصراع على النفوذ والثروة بين الفاعلين السياسيين ومن سيحكم منهم، مؤكدا إنها quot;إذا كانت كذلك يمكن مناقشتها بشكل أكثر اتزانا وليس بالخطاب النافي والاقصائي بين مختلف الفرقاء السياسيين أو بإعادة التقاسم إنما بحوار جاد ومسؤولquot;.
وحول إمكانية الخروج من المأزق الحالي يقترح أستاذ العلوم السياسية بجامعة صنعاء ثلاثة مداخل، أولها: دعوة المعارضة في الخارج واجتماع اليمنيين بكافة توجهاتهم ومنطلقاتهم والإتفاق على نظام سياسي رئاسي، الثاني: إقرار حكم محلي واسع الصلاحيات أقرب إلى الفدرالية يمنح الأقاليم التي لها ثروات ما بين 15 إلى 30 في المائة من عائدات تلك الثروة وهذا سيؤدي حسب رأيه إلى تعزيز الوحدة والاندماج بين مكونات المجتمع وليس إلى الانفصال كما يعتقد البعض لأن الأقاليم التي تتمتع بالثروة ستشهد نهضة كبيرة وبالتالي ستكون مناطق جاذبة للهجرة الاختيارية مما يعمق المصالح ويساعد على الاندماج الطوعي وليس الاندماج القسري، أما المدخل الثالث فيتمثل في التركيز على بناء دولة مدنية عصرية لأن التاريخ كما يقول يؤكد أن quot;القبيلة الملتقية مع الأصولية شكلت دائما عائقا أمام الأفكار التحديثية وأمام بناء الدولة المدنيةquot;.
الوحدة.. والسياسات
في سياق متصل، تذهب بعض التحليلات إلى أن ما تشهده المناطق الجنوبية من تنام للدعوات الإنفصالية ليس إلا نتيجة للتحولات التي شهدتها البلاد لاسيما على المستوى الاقتصادي والمعيشي خاصة منذ أن بدأت الحكومات اليمنية تطبق سياسات الإصلاحات المالية والإقتصادية تحت رعاية وتوجيه المؤسسات المالية الدولية، التي ألحقت ضررا كبيرا بالسكان نتيجة لتراجع الدور الحمائي للدولة في اليمن والذي كانت من خلاله تدعم المواد الأساسية والإستهلاكية.
لكن منذ أن شرعت الحكومة اليمنية في تطبيق تلك الإصلاحات في عام 1995 لحق بقطاعات واسعة خاصة من ذوي الدخل المحدود آثار بالغة لاسيما في المناطق الجنوبية الشرقية التي كان السكان يعتمدون فيها بدرجة أساسية على القطاع العام في ظل النهج الإشتراكي المطبق وما اقترن به من إلغاء للملكية الخاصة.
ومنذ أن تخلت الدولة عن ذلك الدور تدريجيا على مدار الثلاثة عشر سنة الماضية، اتضح أن أثر ذلك على سكان تلك المناطق كان أكثر قسوة نظرا لاعتمادهم على السلع المدعومة وعلى مصادر دخل وحيدة تتأتى من انخراط أغلبهم في الوظيفة العمومية فيما لم يعتمد أقرانهم في الشمال كلية على مداخيلهم المتأتية من الوظيفة العامة بل أضافوا إليها الأشغال الخاصة التي كانوا يمارسونها في ظل اقتصاد السوق المطبق في الشمال.
وأدت هذه الوضعية إلى إيجاد فروق كبيرة بين السكان زاد من وطأتها الحد من فرص العمل بعد تطبيق الإصلاحات المالية والاقتصادية، وعدم قدرة الجهاز الإداري والوظيفي على استيعاب المزيد من قوى العمل المتنامية علاوة على انتشار الفساد وسوء الإدارة واتساع ظواهر المحسوبية والواسطة، وهي عوامل أدت مجتمعة إلى انسداد الآفاق الاقتصادية والمعيشية بوجه قطاعات واسعة من الناس في بلد يتزايد عدد سكانه بمعدل قياسي.
إجمالا يمكن القول أن اليمن يُواجه في هذه المرحلة ظروفا عصيبة خاصة إذا ما أخذ في الاعتبار مجمل الملفات والقضايا المفتوحة على كل الاحتمالات (مثل التمرد في صعدة، وانتشار الجماعات الدينية المتشددة واتساع رقعة الفقر ووجود بنية اجتماعية قبلية ترفض التفاعل مع العصر ومع مقتضياته وتلتقي معي الحركات الدينية المتشددة في كثير من المواقف)، ما يعني أن البلاد واقعة في محنة عسيرة قد تزداد تعقيدا إذا ما جرى الإستهانة بها أو تجاهلها من قبل أي طرف من الأطراف المعنية وهو ما يستدعي البحث (من طرف الجميع) عن مخارج عقلانية ورشيدة منها quot;التجديدquot; في الوسائل القديمة بدلا من التصعيد المتبادل الذي لم يؤد إلا إلى مضاعفة المشاكل المطروحة وإلى تحميل الوحدة بين شطري البلد أخطاء السياسات المنتهجة.
عبد السلام كريم
التعليقات