نواكشوط: شكّـلت المبادرة السنغالية لحلّ الأزمة الموريتانية، والتي تحوّلت بعد إطلاقها إلى مبادرة دولية، طوق نجاة تعلّـق به الموريتانيون، قبل أن تزف ساعة المواجهة، التي طالما لوّح بها طرفَـا الأزمة (الموالاة والمعارضة)، وقد عاش الشارع الموريتاني طيلة أيام المفاوضات واللِّـقاءات على أعصاب مشدودة، انتظارا لأن يظهـر في نهاية النّـفق بصيص أمل قد يفضي إلى نزع فتيل الأزمة وعودة الأمور إلى مسارها.
ولعل عوامِـل عديدة ساهمت في هذا التشبّـث، الذي أظهره الموريتانيون بتلك المبادرة، أكثر من تشبُّـثهم بالمبادرات السابقة، التي أجهض بعضها قبل أن يولَـد، ومات الآخر في المهْـد، وفي مقدِّمة تلك العوامل، أن الخصْـميْـن (المعارضة والمولاة)، راهنا في صراعهما على جياد خاسرة، واتّـضح لهما أن عامل الوقت لن يزيد الأمور إلا تعقيدا.
فقد تبيّـن لأنصار الجنرال محمد ولد عبد العزيز أن الرهان على تلاشي المعارضة وتناقص دورها مع مرور الوقت، لا يعدو كونه مجرّد حسابات خاطئة وأن الجبهة المناوئة للإنقلاب ما تزال عصية على الانحِـناء، كما اتّـضح للمعارضة أن الرِّهان على الرّفض الدولي والمعارضة الداخلية للإنقلاب، واعتبارهما كفيلين بانهيار نظام المجلس العسكري في فترة وجيزة، هو محض أماني تبخّـرت خلال الأشهر العشرة التي انقضت منذ استيلاء المجلس العسكري على السلطة وإزاحة الرئيس المنتخب سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله.
فقد بدأ ولد عبد العزيز يكسِـب إلى جانبه مواقف دولية هامة، كما شهد الموقف الأوروبي، المناوئ للانقلاب، تراجُـعا كبيرا لصالح المجلس العسكري.
يُـضاف إلى ذلك، كون المبادرة السنغالية ـ الدولية، جاءت في الوقت quot;بدل الضائعquot;، باعتبارها quot;الفرصة الأخيرةquot;، قبل موعد الانتخابات الرئاسية المحدّد من جانب واحد في تاريخ السادس من يونيو القادم، وهي انتخابات، لو نجح العسكريون في تنظيمها، فإنهم بذلك ينجحون في قلب صفحة الفترة الإنتقالية ونقل البلاد إلى مرحلة جديدة، قد يكون من الصَّـعب فيها تدارك ما فات على الفريقين في المرحلة الانتقالية.
فالانتخابات الموعودة على بعد أقلّ من أسبوعين والتلويح برفضها وتعطيلها من قِـبل المعارضة، بلغ أشُـدّه، ووصلت الأمور إلى شفير المواجهة، لدرجة يُـمكن القول معها أن كل طرف بات يقِـف على خطِّ النار ويضع الأصبع على الزِّناد.
صراع الحمائم والصقور
ومع تتابع صولات وجولات الوسطاء، أصبح جلِـيا أن في الطرفين قِـوى تدفع باتِّـجاه التسوية والمصالحة، يمكن أن توصَـف بـ quot;الحمائمquot; وأخرى تدفع باتجاه التأزم والمواجهة هي quot;الصقورquot;، ولكل من الفريقين (الصقور والحمائم)، مسوغاته التي تدفع به قُـدما في موقفه، وبينهما تترنّـح مساعي المصالحة، بين طعنات الرّاغبين في إجهاضها واستجداءات أولئك السّـاعين لإنقاذها ونجاحها، رغم تضاؤل الآمال.
فبالنسبة لأنصار المجلس العسكري ورئيسه السابق الجنرال محمد ولد عبد العزيز، أبرز المترشحين للانتخابات الرئاسية القادمة، يوجد فريقان، أحدهما يسعى لفشل الوساطة ويدفع باتِّـجاه التصعيد وبقاء الأمور في دائرة التوتُّـر والاستقطاب، ولهؤلاء دوافعهم الشخصية والنفعية في أغلبها، ويضمّ هذا الفريق بعض الوزراء في الحكومة الحالية وعددا من البرلمانيين والسياسيين ممّـن يلتفُّـون حول الجنرال ولد عبد العزيز، إذ بالنسبة لهم لا يمكن القبول بأي حلٍّ توافقي سيفضي إلى تشكيل حكومة وِحدة وطنية، لأن ذلك يعني احتمال وجودهم خارج الحكومة وفقدهم لمناصبهم وامتيازاتهم.
وبالنسبة لبعض النواب والسياسيين، فيبدو أن أي حل تتّـفق عليه الأطراف سيُـهدِّد مكانتهم ونفوذهم، ذلك النفوذ الذي لم يأت معظمه نتيجة شعبية انتخابية أو كفاءة سياسية، وإنما دفعت بهم أمواج الأزمة إلى الواجهة باعتبارهم يتقنون الموثبات والمحفزات في المواجهة، ويحسنون فنّ التراشق والتّـلاسن، فضلا عن كون الوضعية الإستثنائية التي يعيشها البلد، توفر لهم مناخا مناسِـبا للفساد والتجاوزات، وأي تسوية للأزمة تعني عودة الأمور إلى طبيعتها والاستغناء عنهم وعن دورهم كمخاصمين. هذا فضلا عن أن التسوية تعني احتمال إعادة تشكيل الخريطة السياسية، بما في ذلك خريطة داعمي الجنرال المستقيل ولد عبد العزيز، ممّـا قد يجعلهم يدفعون ثمن ذلك التوسع والتغيير، إذ من باب المنطق أن أدوات التأزم لن تكون بالضرورة هي أدوات المصالحة.
وفي هذا المعسكر أيضا (أي معسكر الجنرال المستقيل)، قوم آخر يدفع باتجاه التسوية وإنهاء الأزمة، وله أيضا مبرراته، منها أنه يرى أن استمرار الأزمة يعني تهديدا للاستقرار السياسي، وبالتالي، يشكل تهديدا لمصالح البلد عامة، فكيف بمصالحه الخاصة، ويرى هؤلاء أن استمرار الأزمة والدفع بالصراع نحو التصعيد، إنما يعني عملية مسخ لبعض الزّعماء السياسيين، ممّـن يستعدون للتحوّل ليصبحوا quot;أمراء حربquot; أو سماسرتها، كما أن التصعيد والتأزيم يعنِـيان تقويض وطن هشِّ البِـنية، لو اجتمع كل أبنائه على بنائه وانتشاله من درك التخلّـف وهاوية الفقر، لاحتاجوا عقودا عديدة لتحقيق ذلك، فكيف بهم لو تشتّـتوا شيعا وتراشقوا بأشلائه؟
خلافات تدفع نحو الحل
أما على الطرف الآخر (المعارضة)، فيمكن القول أن هناك صقورا وحمائما، بعضهم يستنفر النفير ويدق طبول المواجهة، والبعض الآخر يستدر المصالحة ويستجدي التوافق، وكما هو شأن صقور وحمائم الأغلبية الحاكمة، فإن لنظريهما في المعارضة مبرِّراتهما ودوافعهما.
فبالنسبة لسُـعاة التّـصعيد من صقور المعارضة الرافضين ـ إما بصورة مباشرة أو غير مباشرة ـ للحلول المقترحة حتى الآن، فلهم دوافعهم، ومنها أن أي حل توافقي لن يضمن لهم أو لبعضهم الامتيازات التي حظوا بها خلال حكم الرئيس المخلوع ولد الشيخ عبد الله، سواء تعلق الأمر بالمناصب الوزارية أو الإدارية أو النفوذ والمكانة في الساحة السياسية، ومنهم طائفة تنظر إلى الجنرال ولد عبد العزيز كعدُو مصيري، ومعركتها معه هي صراع حياة أو موت، ولن تقبل بأي حل لا يضمن لها سحقه وحِـرمانه من السلطة أو على الأقل تقليم أظافره، لأن بقاء نفوذه يعني في أحسن الأحوال بالنسبة لهم، بقاءهم خارج دائرة النفوذ والسلطة، إن لم يكن ذلك يعني بقاء شبح البطش والتنكيل يتربّـص بهم من حين لآخر، والأجواء الحالية للحلّ على ضوء المقترحات الواردة في المبادرة السنغالية ـ الدولية، لا تضمن إقصاء ولد عبد العزيز والقضاء على نفوذه، وبالتالي، فإن فشل الوساطة واستمرار الأزمة، أولى وأنجع بالنسبة لهم، ومن بين صقور المعارضة مَـن يرون أنه لا ينبغي القبول بأقل من القضاء على ولد عبد العزيز، حتى ولو كلّـف ذلك إحراق البلد وإغراقه.
أما quot;حمائم المعارضةquot;، فإنهم يدفعون باتِّـجاه التسوية لعدّة أسباب، منها أن من بينهم من يعتقِـد أن الأمور باتت قابَ قوسيْـن أو أدنى من مرحلة اللاعودة في مسيرة التصعيد، وأنه لا يوجد أحد بمنجاة من لعنة التاريخ، إذا كان جزء من وسائل المواجهة في معركة ستفتح أبواب جهنّـم على البلد، ومن هؤلاء من لا يرى تعارُضا كبيرا بين مصالِـحه السياسية وبقاء ولد عبد العزيز نافِـذا، بل ربّـما هناك مَـن يرون في برنامجه وتوجّـهاته جزءً كبيرا من أجندتهم السياسية، وآخرون سئِـموا معارضة وممانعة لم يألفوها من قبل، وباتت مصالحهم مهدّدة وأعينهم شاخصة باتِّـجاه الوسطاء، ينتظرون انتهاء الأزمة الحالية ليرحلوا إلى حيث يروْن مكانهم المناسب.
وفي سياق لغة الحمائم، نقل عن الرئيس المخلوع سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله قوله لبعض مؤيِّـديه من قادة المعارضة، إنه أصبح يخشى أن تذهب البلاد إلى هاوية الفوضى وعدم الاستقرار، ويرغب في أن يغادر حلبة الصِّـراع قبل أن يقع المحظور، لأنه لا يريد أن يكون طرفا في معركة إحراق البلد.
كما أن لبعض الحمائم المعارضين دوافع أخرى، منها أن الخلافات التي بدأ رمادُها ينزاح عن جمرِها في صفوف المعارضة، تدفع بهم إلى الحِـرص على تسوية الأزمة السياسية بسُـرعة، لكي تكون نهاية تحالُـف المعارضة نصراً توافُـقياً، لا تفككا وخلافا يمنح الجنرال المستقيل النصر مجانا.
وباختصار، يمكن القول أن نجاح الوساطة السنغالية مرتبطٌ بأمور عديدة، منها أن يُـدرك الفرقاء الموريتانيون جميعا، ودون استثناء، أنه لا يمكن لأي طرف أن يحقِّـق نصرا ساحقا على الطرف الآخر، دون أن يدفع البلد ثمنَ ذلك غالِـيا، قد يُـفقد النّـصر طعمه الحقيقي.
محمد محمود أبو المعالي
التعليقات