واشنطن: جاء البيان المشترك لكل من الرئيس الأميركي quot;باراك أوباماquot; ونظيره الروسي quot;ديمتيري ميدفيديفquot; في الأول من إبريل من العام الجاري بالعاصمة البريطانية quot;لندنquot; متسقًا مع مختلف النداءات الدولية الداعية لضرورة الحد من انتشار الأسلحة النووية والاستراتيجية.

اتفق الزعيمان على وقف تطوير مزيدٍ من الأسلحة النووية والصواريخ البالستية، ذلك فضلاً عن تخفيض المخزون الاستراتيجي من المواد النووية والانشطارية لدى بلديهما، مما أعطى مؤشرًا جيدًا عن إمكانية تدشين مرحلة جديدة من التعاون الأميركي ـ الروسي بعد ثماني سنوات عجاف شهدت توترات في علاقتهما إبان فترتي حكم الرئيس جورج بوش.

وعلى هذا النحو وقعت كل من الولايات المتحدة وروسيا اتفاقًا جديدًا خلال زيارة الرئيس الأميركي باراك أوباما إلى روسيا في أوائل الشهر الجاري يوليو2009 يهدف لتخفيض عدد الرؤوس النووية التي تنشرها البلدان إلى ما بين 1500 و1675 وحدة خلال السبع سنوات القادمة، وذلك لتكون بديلاً في حالة انقضاء اتفاقية الحد من الأسلحة الاستراتيجية. الأمر الذي رحبت به مختلف القوى والمنظمات الدولية لاسيما الأمم المتحدة على لسان أمينها العامquot; بان كي مونquot;.

وعن ماهية وشكل هذا التعاون أصدرت مؤسسة التراث الأميركية دراسة للكاتبين quot;أندري شوميكينquot;وquot;بيكر سبرنغquot;، بعنوان quot;الحد من الأسلحة النووية الاستراتيجية من أجل استراتيجية الحماية والدفاعquot;.

روسيا من بناء القدرات إلى رفض الهيمنة الأميركية

على الرغم من التدهورات الاقتصادية والسياسية التي مر بها الاتحاد السوفيتي قبيل انهياره مباشرة أو حتى في السنوات الأولى منه، استطاعت روسيا ـ الوريث الشرعي للاتحاد السوفيتي ـ الحصول على وتطوير منظومة قدرات نووية ضخمة قادرة على تهديد أمن ووجود الولايات المتحدة الأميركية، مما خلق حالة من الردع المتبادل سواء في المجالات العسكرية أو النووية بين الدولتين.

شهدت روسيا، مؤخرًا، طفرة اقتصادية هائلة نتيجة ارتفاع أسعار النفط والغاز بشكل مطرد، مما انعكس على استعادة روسيا لمكانتها الدولية لاسيما في المجالات الحربية والعسكرية، الأمر الذي دفع الكريملين إلى ضرورة إعادة النظر في الأولويات الروسية بحيث حدثت حالة من التحول في الاستراتيجية الروسية من مجرد الاكتفاء ببناء قدراتها العسكرية والاقتصادية إلى ما أطلق عليه الكاتبان تحدي المصالح والمكانة الأميركية العالمية.

ولعل أبرز تجليات ذلك، الاستنكارات المستمرة من قبل المسئولين الروس، لاسيما الرئيسين السابق quot;فلاديمير بوتنquot; والحالي quot;ديمتيري ميدفيديفquot; للنظام الأمني والاقتصادي العالمي اللذين تهيمنان عليهما الولايات المتحدة وحلفاؤها على كافة مقاليد الأمور. وفى هذا الإطار تشير الدراسة إلى أن هذا الافتراض السابق يُعد الأساس الأيديولوجي الذي تستند عليه السياسات الروسية المناهضة للولايات المتحدة وحلف شمال الأطلنطي.

أميركا وروسيا بين الواقع وما يجب أن يكون

أما على صعيد تطور عملية الحد من الأسلحة النووية والاستراتيجية بين الولايات المتحدة وروسيا منذ انتهاء الحرب الباردة وحتى الآن، تؤكد الدراسة على وجود عدة أطر قانونية تحكم تلك المسألة يأتي في مقدمتها اتفاقية الحد من الأسلحة الاستراتيجية، التي تمثل أول إطار تعاوني في هذا المجال بينهما بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، حيث أبرمت عام 1991، وتم التصديق عليها بحلول عام 1994، بموجب تلك الاتفاقية تم تقنين نشر الرءوس الحربية إلى ستة آلاف رأس كحد أقصى. و تشير الدراسة إلى احترام الطرفين لتعهداتهما والالتزام بها.

وفى سياق ليس ببعيد، وبحلول عام 2002 وقعت الدولتان على اتفاقية موسكو، والتي تم التصديق عليها عام 2003 بحيث تم الاتفاق بموجبها على تقليل النشر العملي للرءوس النووية إلى ما بين 1700 و2200 بحلول عام 2012.

كما تؤكد الأرقام وفقًا للدراسة أن شوطًا كبيرًا قد تم قطعه على هذا الطريق، فوفقًا لتقرير صادر عن خدمة أبحاث الكونجرس أن الولايات المتحدة قبل عام1990 أي قبل توقيع اتفاقية الحد من الأسلحة الإستراتيجية كانت تملك ما يزيد عن 12 ألف رأس نووية، وقد تقلص هذا العدد بحيث وصل إلى ما يقرب من 5914 رأس في مستهل عام 2008، بينما كان الاتحاد السوفيتي حينها يملك ما يزيد عن 11 ألف رأس إلى أن وصلت القدرات الروسية (الوريث الشرعي) للاتحاد السوفيتي إلى ما يربو من 4138 رأس وذلك بحلول يوليو 2008.

أما بالنسبة لاتفاقية موسكو وما تنطوي عليه من التزامات والمتمثلة في تقليل العدد العملي للرءوس النووية المنشورة إلى ما بين 1700 و2200، تشير تقارير الصحف الأميركية وفقًا للدراسة إلى أن الولايات المتحدة تخطو خطوات حثيثة لتحقيق التزاماتها، إلا أن روسيا تنفي ذلك، وتُؤكد على أن ما يُذكر في التقارير من جهود أميركية أقل بكثير ممَّا يحدث على أرض الواقع.

قواعد عامة للحد من الأسلحة النووية

في معرض تحليلها، تُؤكد الدراسة على أن الرئيس الأميركي quot;باراك أوباماquot; ليس لديه خبرة كبيرة في مجال المفاوضات لاسيما مفاوضات اتفاقيات الحد من الأسلحة، ناهيك عن تواضع معرفته بكيفية وضعها موضع التنفيذ. وبالتالي تدعو الدراسة أوباما وإدارته إلى ضرورة أن يكونوا على وعي كامل بعدة قواعد عامة تنطبق على كافة المفاوضات من هذا النوع مع مختلف الأطراف الدولية لاسيما الجانب الروسي حتى لا ينزلقوا في هوة الفشل، يأتي في مقدمتها ما يلي:

القاعدة الأولى: ليس على الولايات المتحدة أن تدخل في أي مفاوضات في حالة ما إذا كان في نيتها الانسحاب عند عدم التوصل لأي اتفاق؛ وذلك على اعتبار أن تكلفة تفادي الفشل في مفاوضات الحد من الأسلحة تفوق بكثير تكلفة الفشل في حد ذاته.

القاعدة الثانية: على جميع الأطراف ضرورة العلم أن مسألة الحد من الأسلحة ليست هي النهاية في حد ذاتها وإنما وسيلة لتحقيق النهاية المرجوة المتمثلة في تحقيق الأمن القومي، آخذة في الاعتبار وجود أدوات أخرى إلى جانبها على سبيل المثال وليس الحصر الاستعداد العسكري في حالة تدهور الأوضاع الأمنية.

القاعدة الثالثة: يجب ألا تطغى إجراءات العملية التفاوضية على مضمونها أو سياستها كما حدث في الماضي إبان محادثات الحد من الأسلحة الاستراتيجية(SALT) مع الاتحاد السوفيتي في السبعينيات من القرن المنصرم.

القاعدة الرابعة: توخي الحذر والتركيز على ما تهدف إليه الاتفاقيات بالمعنى الدقيق في إطار الحد من الأسلحة دون التطرق لموضوعات أخرى وذلك نتيجة إمكانية اتساع وترهل هذا النوع من المفاوضات.

القاعدة الخامسة: على الإدارة الأميركية ألا تسعى فقط إلى إبرام اتفاقيات من شأنها التقليل أو الحد من كمية الأسلحة، وإنما لابد أن تشتمل على أهداف أخرى لاسيما تقليل النزاعات الناشئة والتي قد تنشأ في المستقبل على اعتبار أن هذا الهدف الرئيس للحد من كمية الأسلحة المتاحة.

القاعدة السادسة: السعي الدءوب نحو إبرام اتفاقيات تتسم بقدر كبير من القدرة على التحقق من مدى الالتزام بها وتوفير آليات تضمن ذلك، وتلافي كافة عيوب معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية والتي تعتبرها الدراسة تفتقد كافة آليات تحقيقها.

القاعدة السابعة: لابد أن يكون الهدف الأساسي الذي تسعى المفاوضات إليه هو التوصل لاتفاقيات ذات طبيعة إلزامية؛ ولهذا لابد أن تتضمن سياسات تضمن ذلك، أو ستجد الولايات المتحدة ذاتها فيما أسمته الدراسة نزع السلاح أحادى الجانب، وبالتالي على إدارة أوباما في حالة إبرام اتفاقيات مع روسيا أن تطلب من الكونجرس تمويل برامج دفاع إضافية تخولها سلطة التعامل مع روسيا في حالة عدم امتثالها للالتزامات الناتجة عن الاتفاقية محل الخلاف.

القاعدة الثامنة: على الولايات المتحدة ألا تنخرط في مفاوضات تهدف للتوصل إلى اتفاقيات تتعارض مع مصالح حلفائها، وذلك على اعتبار أن الالتزامات الأمنية الأميركية تجاه حلفائها تمثل حجر الأساس الذي يقوم عليه مفهوم الأمن القومي الأميركي، وبالتالي أي اتفاقيه تتعارض معها تمثل تهديدًا صارخًا للأمن الأميركي مما يؤثر بشكل ملحوظ على مكانتها الدولية.

نصائح للإدارة الأميركية

وفى إطار محاولة تحسين الوضع الأمني للولايات المتحدة في حالة خوضها مفاوضات تهدف للحد من الأسلحة مع روسيا الاتحادية، توصي الدراسة أوباما وإدارته بضرورة اتباع عدة خطوات يأتي في مقدمتها ما يلي:

أولاً: على الإدارة الأميركية ألا تخشى من انتهاء سريان اتفاقية الحد من الأسلحة الاستراتيجية والتي من المفترض أن تنقضي في ديسمبر المقبل، حيث تشير كافة الدلائل أن هناك ثلاثة سيناريوهات محتملة بعد انتهاء العمل بها؛ إمكانية الاتفاق على امتداد العمل بها لخمس سنوات أخرى، أو التسليم بانقضائها، أو السعي لعقد اتفاقية جديدة لتحل محلها. وفى هذا السياق تساند الدراسة هذا الخيار الأخير وتراه أكثر ملائمة للوضع الراهن وفقًا لكافة الدلالات والمؤشرات لعل أبرزها البيان المشترك للرئيسين أوباما وميدفيديف.

ثانيًا: السعي نحو إجراء مفاوضات جادة مع الجانب الروسي للتوصل إلى بروتوكول إضافي يضمن تحقيق الشفافية وتوفير القدر الكافي من مراقبة مدى الالتزام باتفاقية موسكو على اعتبار أنها هي الإطار التعاوني الأبرز بين البلدين بعد انقضاء اتفاقية الحد من الأسلحة الاستراتيجية.

ثالثًا: ضرورة إرجاء خوض أي مفاوضات تهدف لتخفيض كمية الأسلحة النووية إلى ما دون مستوى اتفاقية موسكو في الوقت الراهن لحين صدور التقرير النهائي للجنة الاستراتيجية التابعة للكونجرس، الذي يمثل تعبيرًا عن توافق الآراء في هذا الشأن وتقيمًا للوضع الأمني للولايات المتحدة.

رابعًا: أن تقترح الإدارة الأميركية على الجانب الروسي إصدار بيانٍ مشترك يتضمن ضرورة إنشاء سلسلة مفاوضات تهدف للحد من الأسلحة الاستراتيجية وتتسق في مجملها مع مقتضيات الحماية والدفاع الاستراتيجي. وفى هذا الصدد اقترحت الدراسة أن يتضمن البيان الإشارة إلى خمس اتفاقيات وهي:

المعاهدة الثانية لتخفيض الأسلحة الهجومية الاستراتيجية حيث يتم بمقتضاها الاتفاق على تخفيض الأسلحة إلى ما دون مستوى اتفاقية موسكو.

معاهدة الدفاع الاستراتيجي المشترك، والتي تهدف إلى إيجاد شكل من أشكال الالتزام على كل من الولايات المتحدة وروسيا على التعاون في رد أي عدوان عليهما.