&

تمنّع الملوك المصريون القدماء عن تزويج بناتهم إلى خارج مصر أياً كان الطالب. لذا كانوا يتزوجون من أخواتهم غير الشقيقات. وكذلك فعل إبراهيم الخليل على حد قوله لأبيمالك في العهد القديم: "وبالحقيقة أيضاً هي أختي ابنة أبي. غير أنها ليست ابنة أمي. فصارت لي زوجة." تك 20-12. بيد أن هؤلاء الملوك كانوا يرحبون بالزواج من بنات ممالك أخرى مهما نأت.&
&
أيضاً سار عرب الجاهلية، من أطراف الجزيرة العربية حتى أقاصي الجزيرة السورية وفي عمق الأناضول الشرقي، على المنوال ذاته، فكانوا يمانعون في تزويج بناتهم إلى أشخاص من أرومة أخرى، حتى لو كانوا ملوكاً، مع أنهم كانوا يفرطون في المسارعة إلى الزواج من بنات شعوب أخرى، وكانوا يحسبون هذا أمراً عادياً، لأنهم يمارسون الزواج الخارجي، فيما بين قبائلهم المتمايزة فيما بينها، نتيجة شيوع تحريم زواج الأقارب، إلى درجات متفاوتة، عند الشعوب وفي الأديان.&
&
على ذلك فما وصلنا من قَصَص، يمكن عدّها من بقايا تاريخ أسطوري حفظتها لنا الحكايات والأشعار، عن حالات عشق، بين أبناء عمومة، رفضها الأهل ولم تنته بالزواج، لعلّها تشير في خفايا ثناياها إلى كراهة تزويج ذوي القربى، غير أن روايات "اللغويين" حفظت لنا امتناعهم عن ذلك بحجة مُفارِقة، رفض الحب الذي يحفظون أشعاره ويتغنون بها.&
&
من هنا أُسمِيَ ذلك العشق حباً عذرياً، وهذا شأن عادي، فالرضا بالزواج، أو الوصال، بين أبناء العمومة العاشقين سيبدو كأنه سماح ضمني بسفاح المحارم، الذي غدا تحريمه سائداً عند العرب وغيرهم، نتيجة التطور وملاحظة آثار زواج الأقارب وعواقبه في النسل، من ضعف البنية والإعاقة والتشوهات والموت المبكر.&
&
ومن المحتمل أن يكون لرفض عرب الجاهلية تغريب البنات ارتباط بميل الرجل القديم (أنتروبولوجياً) إلى الاحتفاظ بالإناث، ثم تحولت مظاهره مع التطور الحضاري، إلى إبداء الخشية من إذلالهن بعيداً عن أهلهن، دون نصير يحميهن أو يشفع لهن، وهن المعززات عند أهلهن، المكرّمات عند قومهن. ووصل الأمر عندهم إلى أن لا تتزوج إحداهن إلّا من ترضاه، إذ تستشار فيمن يأتيها من الخُطّاب، وغدت التي يُحامى عنها، وتنشب الحروب بسببها، ومن أجل كرامتها (والقصص في المتون وفي السير الشعبية عن هذا أكثر من أن تعد). وكان أن أنجبت أمثال تلك النسوة حكماء وزعماء يتساندون لخوض معارك ضارية دفاعاً عن قومهم.&
&
من جانب آخر، من الممكن، اعتماداً على إحدى النظريات النفسية، القول إن إرثاً تبقّى من العصر الأمومي، الذي حلّ بعد قيام الأبناء الذكور بقتل الأب، الذي كان يحتكر لنفسه كافة الإناث، ويقوم بطرد الذكور اليافعين بعيداً عن مجاله. ولما كان الأبناء قد اشتركوا في النسوة، بعد تآمرهم على ارتكاب - خطيئة - قتل الأب، قامت الأمهات باستلام تسيير دفة أمور الجماعات، ردحاً من الزمن، وكنَّ طاغيات. ثم ما لبث أن أدى نجاح النساء، في المحاولات الدائبة لاستنبات الجذور والبذور خلال غياب الذكور أمداً، في مطاردة الصيد، إلى نشوء النظام الزراعي، بالتالي ظهور النظام البطريركي، ومن ثم عودة السيطرة إلى الذكور حاملي وزر الخطيئة الأصلية.&
&
يشير بعض الأنتروبولوجيين إلى تجاور النظامين الأبوي والأمومي أحياناً، في بعض المناطق وعند عديد من الشعوب، قبل أن ينتهي الأمر إلى شمول الأول وبقاء آثار من الثاني. وهناك من يستبعد منهم نشوء النظام الأمومي إطلاقاً. ويرى بعض الباحثين أَثَرَ هذا عند العرب في أسماء القبائل من مثل جهينة وحنيفة في الجزيرة العربية وربيعة في نصيبين إلى جوار وائل في ديار بكر ومضر في حرّان والرها (أورفا) في الجزيرة السورية.&
&
أخيراً لاشك في إنها مسألة تحتاج إلى بحث دقيق وعميق كيف انتكس وضع المرأة، بعد مئات قليلة من السنين، وكيف أضحت متاعاً في المنظومة الذكورية، في العصر الوسيط، يتحكم فيه الأب أو من يقوم مقامه من عم أو أخ أو زوج، دون أن يكون لها الحق في تكوين رأي أو إبداؤه، فمن حق الولي الذكر التسلط عليها، وكذلك تزويجها حتى لو كانت طفلة، يقبض مهرها ويسلمها لمن دفع. وغالباً ما يستولي أعمامها أو إخوتها على إرثها - الشرعي- وقد يتصدقون عليها بشيء منه.&
&
قد يعترض معترض بأن التشريع لا يسمح بهذا، وأن فيه العديد من الضمانات. هذا الرد يصدر عن نزعة أخلاقية محمودة. لكن المعتمد ما يحدث بين الناس بناءً على ما هو راسخ في المعتقد الشعبي حالياً من كون المرأة قاصرة، بل يصل الأمر بالبعض إلى اعتبارها أسُّ الشرور، وهذا من آثار جانب من العقيدة اليهودية، تسرب إلينا وعشش في وجداننا، ويزيد في انتشاره حدةً ترديد بعض المتزمتين له وإصرارهم على التأكيد عليه.