احتضنت رحاب جامعة "نيوإنغلند" بطنجة محاضرة "المسيرة الطويلة من أجل الحقوق المدنية بأمريكا"، ألقاها الجامعي الأمريكي روبيرت فرانكلين. وهو من أبرز المفكرين في مجال علم الأديان بأمريكا، وأستاذ الريادة الأخلاقية في جامعة ايموري (أتلانتا)، وقد عمل فرانكلين مستشارا رفيع المستوى لهيئة المجتمع والتنوع الثقافي بجامعة ايموري، وأستاذا زائرا في بمعهد مارتن لوثر كينغ للبحث والتعليم بجامعة ستانفورد بين (2007) و(2012). من كتبه: "الأزمة في القرية: استعادة الأمل في المجتمعات الأفريقية الأمريكية" (2007)؛ "رحلة يوم آخر: الكنائس السوداء في مواجهة الأزمة الأمريكية" (1997)؛ و"رؤى تواقة للتحرر: منجز الإنسان والعدالة الاجتماعية في الفكر الأمريكي الأفريقي" (1990).
&
أشار المحاضر، في البداية، إلى أنه في تناوله لهذا المسار سيتحدث كالأفارقة الأمريكيين وذلك ليستعمل مصطلح المواطنين السود. فقد كانت هناك مسيرة طويلة من أجل الحقوق المدنية، وكانت جهود وتحديات، بحسب الدارسين، واجهها الأشخاص لفائدة الأشخاص الآخرين ولفائدة الإنسانية، ذلك أن هذه التجربة، يقول فرانكلين، تعلمنا محاربة التمييز ضد المسلمين ليصبح السلم أكثر حضورا في هذا العالم. ثم بين أنه سيتناول هذه المسيرة من خلال أربع نقط وهي الأفكار، والأشخاص، والمؤسسات، والتجديد.
في النقطة الأولى الخاصة بالأفكار، أشار المحاضر إلى أن المؤرخين والمفكرين يعتبرونها أقوى من الجيوش لأنها قادرة على أن تهزم جيشا بكامله. ثم تساءل عن أهم الأفكار فبين أن الفكر المتعلق بالديانات السماوية قد قاد نحو الحروب لأن الناس لم يتفقوا حول إلاه واحد. ثم تعرض لأنبل الأفكار، كما سماها، ومنها الحرية، والعدالة، والمساواة، والعدالة الاجتماعية.. وهي التي قادت خطوات المجتمع نحو الحقوق المدنية. وقد لاحظ باحث اجتماعي أن أمريكا تجتاز، كل مائة سنة، طورا لتعيد التوازن إلى نمط حياتها المتأرجح بين محوري الخير والشر. هذا وقد شرع المهاجرون يصلون إلى أمريكا منذ القرن السابع عشر، وكانت تسطير على أغلبهم فكرة التحرر من الملكية، في زمن لم يكن حرا فيه إلا الملك. ولكن في ظل ديمقراطية شعبية، يقول المحاضر، "أصبح الجميع حرا". وكان هذا هو المطلب الأول للمؤسسين الأوائل للولايات المتحدة، وكانوا من الشباب في القرن الثامن عشر: جورج واشنطن أصبح أول رئيس وعمره (44) سنة، ، وجيفرسون حرر جزءا من إعلان الاستقلال وأصبح رئيسا وهو في (43) من عمره، توماس باين حرر إعلان استقلال أمريكا وهو ابن (39)، والثائر باتريك هنري ابن (41) سنة... بنيامين فرانكلين وهو الشيخ الحكيم الوحيد من مؤسسي أمريكا، الذي كان عمره (70).
وقد حارب هؤلاء في خضم الثورة من أجل الحرية فحققوا منها أكثر مما دار في خلدهم. ولكن حين نحاول تطبيق هذه الأفكار على الأفارقة رجالا ونساء يحدث اختلاف حول تطبيقها، وبعد مرور مائة سنة على.تحقيق الحقوق المدنية خيضت حرب أخرى، من نوع مخالف، ليصبح للرجال من السود الحق في التصويت، وبعد ذلك منح الحق للنساء. إذا، بعد مائة سنة اجتمع، في الولايات المتحدة، من جديد عدد من الأشخاص للدفاع عن الحرية، وهم من الشباب في الغالب. فحين دخلت روزا باركس في ثورة سلمية ولم ترد أن تترك مقعدها في حافلة لأبيض، وطالبت بالاختلاط كانت ما تزال شابة. وكذلك كان مارتن لوثر كينغ دكتوار وعمره (27) سنة. وأصبح قائدا لهذا الصراع، ثم أودع بسجن بيرمنكهام، بألاباما بجنوب أمريكا، في زنزانته، التي أصبحت قاعة درس، ومن داخلها كتب رسالته ووجهها إلى رجال الدين، لم يكن يتوفر على ورق فكتب الرسالة على حواشي الجريدة حتى امتلأت.. ثم هرب الرسالة عبر محاميه. وتقدم مختصرا لأسباب الثورة، وجوابا على أسئلة مداها واسع مستعيدا النسق الأخلاقي للوطن الأمريكي.&
وهكذا، اجتمع (250) ألف شخص في العاصمة واشنطن، سنة (1963) لبدء مسيرة كبرى وألقى مارتن لوثر خطابا يعد من أعظم خطابات القرن العشرين. سيقول فيه "عندي حلم..." &وقد استقبل مجموعة صغيرة من قادة المسيرة الرئيس ج. ف. كنيدي، وبعد أشهر اغتيل الرئيس، وأصبح نائبه، جونسون هو الرئيس. ودافع عن قانون الحقوق المدنية، وتم قبوله سنة (1964) من لدن الكونغرس. ويومها، كانت معظم شعوب إفريقيا وآسيا قد نالت استقلالها، فشكلت هذه الحقوق مرجعية كونية لهذه الدول، التي اعتمدت صيغة خاصة من هذه العدالة الاجتماعية. وبذلك انتقل المحاضر إلى النقطة الثانية وهي الأشخاص. ذلك أن الأفكار يحملها الأشخاص، وهي تعني أن الأشخاص يبعثون الحياة في الأفكار، ويضحون من أجلها. وهكذا رفضت الشابة، "روزا باركس"، الخياطة أن تنصاع لقوانين غير عادلة. كما دافع عن فكرة الحرية العدالة، شباب وهم بالجامعة وأدوا الثمن من أجل ديمقراطية أمريكية أصيلة. وهكذا أصبحت أسماء مثل "أندرو كودمان"، و"جيمس شايني"، و"مايكل شويرنر" الذين اغتالتهم عصابة "الكو كلوكس كلان" رموزا لشهداء مسيرة الحقوق المدنية سنة (1964). وهكذا فدور الأشخاص يتحول إلى مرجعية عالمية، وفي كل مجتمع قادة يقودون المجتمع بكل شرف وإبداع ليعيدوا إليه الحياة ولتحقيق الصالح العام. وقد ساهم كل من موقعه، ومن ذلك القادة البيروقراطيون مثل القضاة في المحكمة العليا الذين قادوا محاكمات غيرت القوانين، والمحامون من خلال الدفاع وإعداد الملفات، والقادة الاجتماعيون ومنهم النساء والأمهات والجدات بمساعدة الشباب ونقل المعارف، والقادة التقليديون، والمهنيون.. وأشار المحاضر، روبرت فرانكلين، إلى أن حركة الحقوق المدنية تطلبت مرحلتين، تغييرات قانونية تتلوها توافقات جماهيرية، أي يتغير القانون ثم تتغير القلوب.&
ثم انتقل فرانكلين إلى العنصر الثالث وهو المؤسسات، وتمثل الظل الذي يتبع الأفكار الكبرى، وهي تحافظ عليها وعلى الرؤى. فالأشخاص يحلمون وسيبعثون الرؤى، والمؤسسات تحافظ عليها. ويدخل ضمن المؤسسات المؤسسة الدينية، والسياسية، (حركة حقوق الأطفال، الحركة من أجل السلم...). وقد قاومت حركة المؤسسات التمييز إذ اجتمعت وقالت "لا للتمييز"، ونجحت في تمرير القوانين التي تضمن الحقوق. وهكذا تحقق التغيير والتجديد. والمقصود بالمؤسسات تلك التي تمولها الدولة، لا القطاع الخاص، &ولا تسعى للربح بل المصلحة الأمة. من هذه المؤسسات "المنظمة الوطنية لتقدم الأشخاص الملونين"، التي أدت إلى فهم جديد، وساعدت الأشخاص على أن يعيشوا ثورة داخلية للعيش في وسط يسوده السلم والأمان. مجتمع يعيش في حضنه السود واليهود والمسلمون على قدم المساواة. وقد ساعدت مؤسسات بعض البيض على الاقتناع بوجوب قبول الآخر حتى لا يتعرض المجتمع إلى ثورات تقود إلى مأساة. وبوجوب التصالح مع الماضي، وعمدت مؤسسات ومعاهد إلى تنظيم لقاءات حول ضحايا مسيرة الحقوق المدنية، وتحافظ ولاية مسيسيبي على آثار من الماضي للتصالح معه. ولعل انتخاب أوباما يدخل في ذلك التصالح مع الماضي، والاعتراف بالتعدد..&
وانتقل فرانكلين إلى العنصر الرابع وهو التجديد بصيغة الجمع. لما كانت أمريكا تشهد مسيرة الحقوق المدنية، كان العالم يشهد تغييرات مهمة علميا أدت إلى التجديد والإبداع التقني ومنها إطلاق "سبوتنيك" السوفييتي، وسميت الفترة بفترة الثقافة الجماهيرية. وهكذا تطورت الكاميرات مثلا، أصبح حجمها أصغر، ولم تعد تحتاج كابلات ولا ميكرفونات مما ساعد في إنجاح المسيرات والتظاهرات، كما ساعد أيضا في تغيير تعامل الشرطة مع المواطنين من حيث التصوير عن بعد. وكان نجاح الرئيس كنيدي مرتبطا بنجاح التلفزة، فأصبحت مساحة الأخبار (15) دقيقة، ثم تحولت إلى (30) دقيقة كل مساء، وما تزال، بل ظهرت قنوات إخبارية مثل (C.N.N)، و(B.B.C)... وهكذا أصبحت الحركة تتطور في الشوارع، وتحول مارتن لوثر كينغ نجما وسعى لخدمة الآخرين، وفضح التلفزيون جرائم (الكوك لوكس كلان) ضد السود، والمسلمين، واليهود وأشاعها بين الأسر.. وأصبح الأمريكيون يعرفون أشياء جديدة عن أنفسهم. وتعاطف المجتمع مع لوثر كينغ.. الذي أصبح زعيما كونيا يلهم صراع العرب، والآسيويين،&
وهكذا اعتمدت مسيرة الحقوق المدنية على الأفكار، والأشخاص، والمؤسسات، والتجديد.. وأصبح الاغتراف بالأقليات المهمشة ممكنا.. ومنها السود، والمسلمون.. فالقضاء على التمييز يمر، أيضا، عبر إحياء ذاكرة التاريخ..
ودعا المحاضر، في الأخير، إلى الانفتاح على الحركات الشبابية فهي ترفض الإقصاء، والتمييز، وتتغنى بالأحلام: المساواة، والحرية، والاعتراف.. ومن ذلك أيضا الاستماع إلى أغاني الراب، وأغاني بيونسي.. &
ثم فتح باب النقاش، وقال المحاضر مبتسما "سأمتحنكم"، ثم طرح سؤالا على الحضور "حين نتأمل حالة العالم، اليوم، ما الذي يبعث الأمل فيكم، وما هي دواعي القلق؟" ورغم تنوع الأجوبة فقد نحت نحو القلق، فمن قال بأن حلم مارتن لوثر كينغ لم يتحقق، مادامت الشرطة الأمريكية تقنص كل مرة مواطنا أمريكيا من أصول إفريقية، وما دام ترامب يجرؤ على احتقار جزء من البشرية، بل ما دامت هوليود نفسها، التي بنى مجدها فنانون ملونون، تمارس العنصرية في تسليم الجوائز وإعلان لائحة الترشيحات.. وها هو ترامب يوظف الإعلام لنشر الكراهية.. ومن ردود المحاضر أن كلام المرشح خطير وغير مسئول، وأن الكذب حبله قصير، وأن من ملامح التغيير أن ترتفع أجور النساء في العالم، ومنه أمريكا، وأن الفرص الاقتصادية هي محك تحقيق الحلم، وأن الأمل في الشباب، لأنه روحهم يسكنها الإبداع. وللشباب القدرة على الإقناع، فهم المستقبل، وهم الأغلبية.. واستشهد بقول المفكر الأمريكي، كارل بول راينهولد نييبر، في أن الديمقراطية هي قدرة الرجال على العدالة التي تمكن من تحقيق الديمقراطية.. &
&
التعليقات