&
&
اللغة،لا شيء غير اللغة.ذاك هو المهم والجوهري والأساسي
لوي فارديناند سيلين
&
لست أدري لم انتظرت بلوغي سن الثلاثين لأقرأ أعمال الكاتب الفرنسي الكبير لوي فارديناند سيلين. لعل غيابه عن الكتب الأدبية المعرفة بالأدب الفرنسي كان سببا في ذلك. أو لعلني وقعت تحت تأثير البعض ممن كانوا يكرهونه ، وينفرون من ذكر إسمه. لذا بتّ أخشى الإقتراب منه ومن أعماله، ظانّا أنها هلوسات كاتب مريض لا تستحقّ الإهتمام. لكن ذات يوم، مزقت الستار الحاجب بيني وبينه، والتهمت في بضعة أيام رائعته:”سفرة إلى آخر الليل" لأجدها شبيهة بكل الروايات العظيمة التي قرأتها حتى ذلك الحين. بعدها أتيت على البعض من أهم اعماله الأخرى مثل:”الموت بالدّين"، و"شمال"، و"من قصر إلى آخر". وجميع هذه الروائع أثبتت لي أن سيلين هو واحد من عباقرة الرواية في القرن العشرين.
وكان تشهيره باليهود، وإنحيازه للنازية سببا أساسيا في حرمانه من الشهرة التي كان يتمتع بها كتاب عصره من أمثال جان بول سارتر،وأندريه جيد، وأندريه مالرو، وألبي كامو. لذا أصبح كاتبا ملعونا ومنبوذا، يخشى الكثيرون الإقتراب منه،والإشادة بعبقريته الفنية. وينتمي سيلين الذي كان يدعى لوي فارديناند ديدوش والمولود في 27 مايو-أيار 1894 إلى عائلة متوسطة الحال. فقد كانت والدته تملك محلاّ لبيع الملابس. أما والده فيعمل مظفا في شركة للتأمين. عند بلوغه سنّ لرابعة، استقرت عائلته بباريس. وفي فترة الطفولة والمراهقة، عاش سيلين متنقلا بين أماكن متعددة. فبعد حصوله على الشهادة الإبتدائية، أمضى سنة ف ألمانيا. ثم انتقل إلى جنوب بريطانيا، ليتعلم لغة شكسبير. وفي الثامنة عشرة من عمره جنّد وأرسل إلى جبهات القتال في الحرب الكونية الأولى. وبسبب إصابته بجراح خطيرة، نقل إلى المستشفى ليظل فيه حتى عام 1915. وفي لندن التي عمل فيها موظفا في القنصلية الفرنسية، إختلط بالمشبوهين، وبالمتاجرين بالدعارة. ثم لم يلبث أن ترك عمله بالقنصلية ليمضي سنة في إفريقيا السوداء التي ستحضر في روايته الأولى:”سفرة في آخر الليل". وفي مطلع القرن العشرين، التحق بكلية الطب بباربس. وبعد تخرجه منها، تزوج من إديث فولّي ،إبنة الأستاذ فولّي الذي يكون في ما بعد مديرا لمدرسة الطب في مدينة"ران". منها سينجب إبنته الوحيدة كوليت.
طبيبا عمل سيلين في جينيف ضمن "هيئة الصحة" التابعة ل"مجمع الأمم". وقد خوذل له عمله ذاك، القيام بمهمات في الولايات المتحجة الأمريكية(1925)، وفي إفريقيا(1926)، وفي البعض من البلدان الأوروبية. كما خول له متابعة ما كان يجري من أحداث سياسية والتعرف عن كثب على أوضاع إجتماعية وإنسانية ستحضر في ما بعد في جل أعماله. وفي عام 1926، إختار اللإنفصال عن زوجته ليعيش قصّة حب مع راقصة أمريكية جميلة تدعى اليزابيت غرايغ...
وكانت سنة 1933 سنة مثمرة بالنسبة لسيلين. فقد أصدر روايته الأولى:”سفرة في آخر الليل" التي أثارت ضجّة هائلة حال صدورها. مع ذلك، مُنحت جائزة"غونكور" المرموقة لكاتب آخر لن يبلث أن يلفه النسيان. أما سيلين فقد أحرز على جائزة:”رونودو"، وبروايته نوّه النقاد الفرنسيون الألمان والامريكيين والبريطانين والإيطاليين . وتبدأ الرواية بجملة بسيطة لم تكن معهودة في الروايات الفرنسية التي سبقتها:” بدأ الأمر على النحو التالي"...وهي ترسم صورة مرعبة عن الموت والعنف والرذيلة والشر، وفيها تتداخل الأصوات والأماكن والأزمنة. بطلها يدعى باردامو يأخذنا من فرنسا، إلى أدغال إفريقيا، ثم إلى جحيم المدن الصناعية في الولايات المتحدة الأمريكية حيث الإقتتال على جمع الثروات وكسب النفوذ والسلطة يأخذان طابعا وحشيّا شرسا. أما الغة فقد كانت جديدة ملقّحة باللهدة الدارجة التي تكثر فيها الألفاظ السوقيّة والكلمات البذيئة. فكان سيلين أول روائي فرنسي يجعل من لغة الشعب البسيط لغة شعرية لا تختلف في روعتها ودقتها عن لغة كبار الأسلوبين القدماء والمحدثين. لذا يمكن القول إن سيلين إبتكرلغة روائية لم تكن معهودة من قبل.
في نفس السنة التي صدرت فيها روايته المذكورة، أرسل سيلين إلى ألمانيا التي كانت تشهد آنذاك الصعود المدوي للنازية. وكانت مهمته القيام بتحقيق حول الصحة الإجتماعية المُموّلة من قبل "هيئة الصحة". عند عودته،نشر مقالا حمل عنوان:”لقتل البطالة، هل سيقتلون العاطلين عن العمل؟". وفي السنوات الأخيرة من عقد الثلاثينات، إنشغل سيلين بكتابة روائعه الروائية الأخرى مثل:”الموت بالدين"، و"تفاهات من أجل مذبحة"، و"مدرسة الجثث". كما نشر نصوصا معادية للسامية معتبرا أن "اليهود هم سبب الشر في العالم". ولإقناع الراقصة اليزابيت غرايغ بالعودة إلى فرنسا بعد أن إنفصلت عنه، سافر إلى الولايات المتحدة الأمريكية، إلاّ أنه لم يفلح في إقناعها. عند اندلاع الحرب الكونية الثانية، رحّب بالإحتلال النازي لبلاده. وللدفاع عن مواقفه، نشر العديد من المقالات، وأجرى حوارات مُشنّعا باليهود والحلفاء وبجرئام بريطانيا الإستعمارية. وفي براين التي زارها آنذاك، التقى بغوبلس، وزير الدعاية النازي. وثمة من يؤكد أنه التقى بهيتلر أيضا. وكانت سنة 1944 سنة عسيرة . فقد لاحت في الأفق ملامح هزيمة النازية إذ راح الحلفاء يسترجعون شيئا فشيئا ما كانوا قد خسروه في سنوات الحرب الأولى. لذلك كان على سيلين أن يعجذل بترك باربس صحبة زوجته لوسي منصور التي كانت هي راقصة أيضا. وف مدينة بادن بادن اللألمانية أمضى الزوجان بضعة أشهر. ولما شرع الحلفاءفي الزحف على برلين من الشرق والغرب، اجتازا ألمانيا التي كانت مدنها وقراها تشتعل. وستكون تلك الرحلة الشاقة والمؤلمة موضوع روايتين هما:”شمال"، و"من قصر إلى آخر". ولم يتمكن سيلين وزوجته من الوصول إلى الدانمراك إلاّ يوم 22 مارس-آذار 1945. عند خروج النازيين من باريس، أصدرت حركة المقاومة الفرنسية برقية إيقاف ضد سيلين بتهمة الخيانة العظمى. وقبل أن تنتهي الحرب، أغتيل ناشر كتبه روبير دونوال في باريس فيظروف غامضة. وفي نفس الوقت، تم القبض على سيلين وأودع السجن في كوبنهاغن. وهناك ظل حتى عام 1947. وفي"دفاتر السجن"، كتب يقول:”قد أكون واحدا من الكائنات التي من الممكن أن تكون حرّة. أمّا الآخرون قيكادون يستحقون جميعا السجن بسبب مذلّتهم المُدّعية، وحيوانيتهم الخسيسة، وتبجحهم الملعون". وفي فقرة أخرى كتب يقول:” أنا على عجلة لأن أجد نفسي في مكانلا أكون فيه لا سافلا ولا دنيئا أبدا".
في صيف عام 1951، عاد سيلين إلى فرنسا برفقة زوجته بعد أن صدر عفو بشأنه. وفي ضاحية"مودون" بباريس استقر ليشرع في الرد بعنف على خصومه ناعتا سارتر ب"الإعور الخبيث"، وألبير كامو ب"الثور الهائج"، وأندريه مالرو ب"سارق التماثيل البوذية". وبعد وفاته في 30 حزيران-يونيو 1961، كتب عنه فرانسوا جيبو يقول:”كان هناك آخرون يصرخون مثل سيلين، لكنه كان يصرخ وحيدا. وخاض دائما معارك من دون أن يستعين بأيّ أحد. ولا أحد طلب منه أن يكتب نصوصا في شتم اليهود، إلاّأنه فعل ذلك بطريقته الخاصة، ومن دون تأثير أحد. في حياته كما في أعماله، لم يقع سيلين تحت أدنى تأثير. حتى النهاية ظل وحيدا ومستقلا".