حنان سليمان من واشنطن: عادت مرة أخري قضية الشركات الأمنية الخاصة العاملة في العراق أو جيش المرتزقة الموازي الذي يحارب جنبا الي جنب مع القوات الأمريكية وحلفائها ويبلغ قوامه طبقا لتقديرات أمريكية ما بين 40 ألفا و 80 ألفا إلى الواجهة بعد تسبب متعاقدين أمنيين من شركة بلاك ووتر كبري شركات توريد المتعاقدين إلى بلاد الرافدين في مقتل أحد عشر مدنيا أثناء وقوع اطلاق نيران دفاعا عن أحد الدبلوماسيين الأمريكيين في بغداد منذ أسبوعين. الأمر الذي اعتبرته الحكومة العراقية quot;استخداما مفرطا للقوةquot;.


هذا الحادث ليس هو الأول الذي يتورط فيه مقاولو بلاك ووتر في قتل مدنيين عراقيين ففي ليلة رأس السنة عام 2006 قام مقاول مسلح بقتل أحد الحراس العراقيين المكلفين بحماية مسئول عراقي كبير داخل المنطقة الخضراء. لكن توقيت الحادث الأخير ليس في صالح الولايات المتحدة كما صرح مسئول عسكري كبير ؛ فالحادث يأتي وسط تصاعد حدة الجدل بشأن الانسحاب من العراق وهو اذا ما حدث بالفعل فسيعني وجودا أكبر ونفوذا أوسع لهذه الشركات الأمنية الخاصة واصفا المأزق الذي تعيشه أمريكا حاليا بأنه أسوأ من فضيحة أبو غريب.


فجر الحادث قضية متداولة بشكل سري الي حد كبير داخل أروقة السياسيين وصوب الجميع سواء كان الكونجرس أو الحكومة العراقية سهامه باتجاه بلاك ووتر التي لها باع طويل في تأجير المتعاقدين. وأرسل أرسل روبرت جيتس وزير الدفاع الأمريكي فريقا مستقلا من كبار مسئولي البنتاجون الي بغداد منذ بضعة أيام لتقييم وضع هؤلاء المقاولين واذا كان القادة الميدانيون يتعاملون معهم بحزم أم أنهم قد يتساهلون في بعض الأشياء التي قد تؤدي الي مثل هذه الحوادث، ناهيك عن الوضع الصعب والتهديد المحيط بسمعتها والذي لا شك سيؤثر سلبيا علي نشاطها في المستقبل خصوصا مع بدء الكونجرس تحقيقاته في ملابسات الحادث منذ بضعة أيام.


بوش وبلاك ووتر. علاقة وثيقة
وفي مواجهة جديدة بين الادارة الأمريكية الجمهورية والكونجرس الديمقراطي استبق الرئيس الأمريكي جورج بوش تحقيقات السلطة التشريعية برسالة بعثها الي المدير التنفيذي لبلاك ووتر يأمره فيها بعدم الادلاء بأي معلومات الا باذن منه وهي سقطة خطيرة من ادارة بوش وتدخل سافر لصالح طرف مدان بالفعل.


لكن يبدو أن العلاقة بين جورج بوش وبين بلاك ووتر تحديدا دون غيرها من شركات الأمن الخاصة هي علاقة تاريخية وثيقة كشف عنها الصحفي جيرمي سكاهيل في كتابه quot;بلاك ووتر. قصة صعود أقوي جيش للمرتزقة في العالمquot;. فبالنظر الي مساهمات مؤسس الشركة المليونير اريك برينس ذو التوجه المحافظ الذي ينحدر من أسرة ثرية معروف عنها تبرعاتها السياسية التي أدت لصعود تيار اليمين المسيحي من خلال تبرعات وتمويل ضخم للحزب الجمهوري، ساهمت الشركة في فوز الجمهوريين في انتخابات الكونجرس ثم الانتخابات الرئاسية لاحقا التي أوصلت جورج بوش الابن الي البيت الأبيض وهو الرئيس الأمريكي الذي سطع نجم الشركة في عهده.


كان لهذه الشركة تحديدا نفوذا واسعا ومكانة خاصة لدي الادارة الأمريكية الحالية حتي انه عندما قتل أربعة جنود منها في الفلوجة في مارس 2004 وأحرقت جثثهم وتم سحلها في شوارع المدينة ثم علقت جثتان أسفل أحد الجسور. جاء الرد الأمريكي عنيفا متمثلا في تدمير الفلوجة وقتل وتشريد آلاف العراقيين وتوسيع خصخصة الحرب بدلا من تقليل الاعتماد علي المقاولين المأجورين.


المرتزقة. وقود الحروب
الانضمام الي جيش المرتزقة في العراق أصبح أمرا يستحق المخاطرة في نظر الكثيرين بسبب الاغراءات المادية التي تحول الأنظار عن أية مخاطر وصعوبات قد تعتري الطريق. فالمقاول الأمني الخاص الواحد يتقاضي مائة وعشر ألف دولار شهريا خالية من الضرائب بينما الجندي الأمريكي يتقاضي نحو عشرين ألف دولار. هذا بخلاف التأمينات التي يحصل عليها علي حياته وصحته بالاضافة الي تأمين ضد الخطف. ويكلف بيزنس الحرب هذا الشعب الأمريكي أربعة مليارات دولار الذي يمول هؤلاء المرتزقة عبر الضرائب التي يدفعها كما يقول سكاهيل في كتابه.


مكاسب هذه الشركات تعتبر خيالية فبعد مرور عام واحد فقط علي غزو العراق بلغ حجم المكاسب مائة مليار دولار. ويكفي أن نقارن ما كان عليه الوضع قبل الغزو وبعده بالنسبة للشركات الأمنية البريطانية مثلا التي وصل حجم مكاسبها الي أكثر من مليار وثمانمائة مليون استرليني عام 2004 بعد أن كان ثلاثمائة وعشرين مليون فقط عام 2003 وذلك وفق احصائيات ديفيد كلاريدج مدير شركة جانوسيان الأمنية ومقرها لندن.


ويرجع ازدياد الاعتماد علي المرتزقة أو المقاولين الأمنيين في القرن العشرين لأسباب نفسية وسياسية قبل أن تصبح مالية، فبعد حرب فيتنام وانتشار ما يمكن أن يوصف بأعراض فيتنام أو Vietnam Syndrome لم يعد الشعب الأمريكي يتحمل خسائر كبيرة في صفوف جيشه فلم يكن المرتزقة سوي الخيار الوحيد المتاح أمام الادارات الأمريكية المتعاقبة الا اللجوء اليهم لاشباع رغباتها في شن الحروب التي تريدها وبالطبع فان ادارة بوش لما تتميز به من رغبات جامحة كان من المتوقع أن تتوثق علاقتها بهذه الشركات الأمنية. أي أن هذه الشركات قادرة علي تحقيق ما يريد الجيش تحقيقه دون تعريض حياة رجاله الي الخطر ودون تعريضهم حتي للمساءلة. وهذا هو لب الأزمة.


فقبل رحيل بول بريمر رئيس ما كان يسمي بسلطة الائتلاف المؤقتة بيوم واحد فقط. أصدر قانون رقم 17 الذي يمنح لكل شخص غير عراقي يرتبط عمله بسلطات الاحتلال الحرية الكاملة دون أن يستطيع أحد مساءلته سواء الحكومة أو البرلمان العراقي فلا يمكن اعتقاله الا عن طريق ممثلي دولته ولا يمكن تفتيش أغراضه أي انه يتمتع بحصانة شبه مطلقة لفعل ما يشاءون في حرب لا تدور علي أرضهم ويقفون فيها في صف المحتل. وفي تصريحات سابقة عن دور هذه الشركات في حرب فيتنام والتي لا تختلف طبيعة مهامها عن العراق وصف مسئول بوزارة الدفاع شركة فينل كوربريشن بأنها جيش أمريكا الصغير من المرتزقة مؤكدا أنهم يستغلونهم في أعمال لا يستطيع الجيش الأمريكي أن يفعلها بنفسه في فيتنام اما بسبب القدرات العضلية أو المشاكل القانونية التي قد تحدث لهم. الأمر الأكثر غرابة هو أن فرصة الجنود الأمريكيين الذين يثبت ارتكابهم لانتهاكات في المحاكمة أكبر من فرصة هؤلاء المرتزقة. وينقل سكاهيل في كتابه عن أحد المتعاقدين انه في حال وجود احتمال بالادعاء علي أي محارب بالأجرة في العراق فانه يتم تهريبه فورا الي خارج البلاد.


وقد أشار التقرير السنوي لمنظمة العفو الدولية لعام 2006 لدراسة أكاديمية أجريت علي ستين عقدا لهذه الشركات في العراق تظهر أن جميع هذه العقود لم تنص علي أي التزامات ينبغي أن يراعيها هؤلاء المرتزقة فيما يخص حقوق الانسان أو حتي عمليات الفساد.


هؤلاء المرتزقة يقومون بمهام الجيوش النظامية من قتال ومعارك مباشرة وجمع معلومات مخابراتية وتدريبات عسكرية وتوفير الأمن في مناطق الصراعات وتقديم الاستشارات ووضع الخطط العسكرية بالاضافة الي مهام أخري مدنية لكنها تساعد الجنود أيضا مثل تقديم الدعم اللوجستي والفني للآلات والمعدات العسكرية وتولي مهام اعادة البناء كما أن أداء هذه المهام يتطلب حمل السلاح والاستعداد لاطلاق النار تحسبا لأي حادث يقع ولذلك يصبح من الصعب التفرقة بين المقاول المدني والمقاول العسكري الذي لا يفرق عن الجندي الرسمي الا باسمه.

بعض الشركات سعت لتغيير طبيعة مهامها رسميا والاعلان بشكل واضح وصريح أنها مستعدة للقيام بمهام الجنود مثل كوفر بلاك نائب رئيس شركة بلاك ووتر الذي أعلن في مؤتمر صحفي في مارس 2006 عن استعداد شركته لتوفير جيوش خاصة وفرق عسكرية كاملة في صراعات ذات طبيعة أهدأ بعض الشئ.


حجم جيش المرتزقة الموازي عليه خلاف كبير فالرقم الأكثر شيوعا هو مائة وثمانون ألفا بينما الرقم المعلن عنه رسميا من قبل البنتاجون هو مائة وسبعة وثلاثون ألفا منهم سبعة آلاف وثلاثمائة أصحاب مهام أمنية من تأمين منشآت ومسئولين وتدريب الجيش العراقي وتوفير الدعم للجنود الأمريكيين. هذا بخلاف الحراس الذين يعملون لدي وزارة الخارجية الأمريكية ومكتب الكومنولث والمنظمات الأجنبية الأخري في العراق. وقد أكد مؤخرا روبرت جيتس وزير الدفاع انه ليس بالامكان الاستغناء عن هؤلاء المقاولون الأمنيون.


جيش من الشركات المأجورة
الأزمة الحالية لا شك أنها ستزيد من المناقشات بين وزارة الخارجية التي تتولي الاشراف علي هذه العقود الأمنية وبين البنتاجون الذي يطالب منذ فترة بأن يكون معنيا بالأمر ليصبحوا تحت طوعه ويستطيع مساءلتهم ومحاسبتهم.


وبالنظر الي شركة بلاك ووتر سبب الأزمة الحالية نجدها أشهر الشركات الأمنية الخاصة العاملة في العراق كانت مسئولة عن حماية سلطة الائتلاف المؤقتة برئاسة بول بريمر كما أنها أكثرهم انخراطا في حوادث اطلاق نار أثناء حراسة دبلوماسيين أمريكيين حسبما أفاد مسئولون في ادارة بوش وفي مجال توريد المرتزقة. أظهرت بلاك ووتر تفوقا علي مثيلاتها وكانت تطلق النار بمعدل ضعف عدد مرات اطلاق النار لدي شركتي داين كورب الدولية Dyn Corp International وتريبل كانوبي Triple Canopy وهما شركتين أمنيتين أخريتين تعاقدت معهما الخارجية الأمريكية لتوفير الأمن لدبلوماسييها ومسئولين مدنيين كبار في العراق.


تأسست بلاك ووتر عام 1996 علي يد المليونير المسيحي المحافظ اريك برينس وهو جندي سابق في البحرية الأمريكية واتخذت من نورث كارولينا مقرا لها علي مساحة 7000 فدان لتكون أكبر قاعدة عسكرية خاصة في العالم وبدأت نشاطها عام 1997. يعمل ثمانمائة وخمسين مقاولا أمنيا خاصا لدي بلاك ووتر ثلثان منهم أمريكيون وفق احصائيات الخارجية الأمريكية وخدمة أبحاث الكونجرس بينما تحتفظ داين كورب بمائة وخمسة وسبعين وتريبل كانوبي بمائتي وخمسين. لكن تقريرا نشر في صحيفة واشنطن بوست بنهاية العام الماضي ذكر أن بلاك ووتر لديها أكثر من ألف مقاول في العراق معظمهم معنيون بتوفير الأمن بينما تحتفظ داين كورب بألف وخمسمائة منهم سبعمائة يتولون تدريب الشرطة العراقية.


تتخطي قيمة عقود بلاك ووتر في العراق التي حصلت عليها عن طريق وزارة الخارجية الأمريكية قيمة عقود البنتاجون نفسه بثمانية أضعاف علي الأقل وذلك في احصائيات أوردها موقع الانفاق الفيدرالي المستقل FedSpending.org حيث أشار الي أن بلاك ووتر ومنذ عام 2004 حصلت علي عقود تزيد قيمتها عن ثمانية مليار دولار بينما كانت عقود وزارة الدفاع تتعدي المليار دولار بنسبة بسيطة.


الشركات الأمنية الأخري لا تضاهي بلاك ووتر في مكاسبها فداين كورب علي سبيل المصال فازت بعقد بخمسين مليون دولار لارسال ألفا من ضباط الشرطة السابقين وحراس الأمن لتدريب الشرطة العراقية ووصل حجم مكاسبها ملياري دولار في عام 2006.