عمان: عباءة و(فوطة)، وشم بلون السماء مرسوم على اعلى الحاجب، نقاط تنناثر بحرص على الكف، تعب السنين يخط الجبين بخطوط عميقة تذكر بعدد الطرق التي سارت عليها تلك الأقدام الموغلة في التعب، انهن عراقيات يفترشن أرصفة عمان يبعن كل الاشياء البسيطة التي من السهل حملها حين يتعرض الرصيف الى هجوم مباغت من البلدية او شرطة الوافدين.


في منطقة وسط البلد ، حيث يضج السوق بالباعة والمتسوقين والسياح بمختلف اجناسهم واشكالهم ، تتناثر بسطيات صغيرة على جوانب الارصفة، نفس البسطيات التي غطت ارصفة بغداد لعقود طويلة، بسطيات يتصيدها السياح بعدسات كاميراتهم، وتعتليها نساء مميزات، سيماهن علي وجوههن من اثر العراق، يفترشن مساحات واسعة من الطريق الممتدة مابين جامع الحسين وكراج السيارات الرئيسى في تلك المنطقة.
سجاير ، كبريت ، قداحات ، ماكينات حلاقة ، بطاريات ، فازالين ، هذا ما ستراه امامهن من اشياء ، وهي على بساطتها توفر لهن لقمة عيش ما ، بعيدا عن العنف الذي يتصاعد على ارض الوطن ، والذي باتت الاسلاك الشائكة فيها اكثر من البشر على حد تعبير احداهن.


ام فاطمة ، اربعينية، تحكي قصتها مع بسطتها الصغيرة التي تتلخص في بضعة انواع من السجاير والقداحات قائلة quot; جئت الى هنا مع ابنتي بعد ان قتل اخي امام باب الدار quot;، وتستمر ام فاطمة فى سرد قصتها قائلة quot; نحن نسكن في الشعلة ، كنت انا واخي وزوجته نسكن مع امي في بيت واحد بعد طلاقي ، تزوج اخي قبل شهر واحد فقط من مقتله، لم يكن سوى عامل بسيط في مطعم، لذلك اخذت ابنتي وجئت الى الاردن هربا، اما امي فقد تركتها مع اختي الاخرى وزوجها ، وارسل لها مصاريفها كل شهر quot;. وحول الطريقة التي يتم فيها بيع وشراء الاغراض في هذه البسطيات المتواضعة تقول ام حيدر quot; ان صاحبات البسطات نوعان ، اما ان لديهن رأس مال فتذهب لسوق الجملة وتشتري بنفسها، او بلا رأسمال فيأتي متعهد كل صباح ينزل البضاعة عند البسطية ، ويعود في آخر النهار لأخذ حصته من مجمل المبيعات quot;.


النساء العراقيات بمجملهن تحدثن عن ان العيش في عمان ومشقة العمل ارحم بكثير من العيش وسط العنف الذي يعيشه العراق. ام كاظم، امرأة ستينية جاءت مع ابنها وهو اصغر اولادها الى عمان قبل عام، قالت انه الوحيد غير المتزوج من ابنائها الاربعة وانها تحرص على ان يكون عمله محصورا في الذهاب الى سوق الجملة لشراء وجلب المواد ، اخاف ان يلقى القبض عليه ، فهو كحال الجميع ليس لديه اقامة ولا تصريح عمل quot;.


وتحدثت ايضا قائلة quot; الشرطة تتساهل معنا نحن الكبيرات في السن، بينما لاتتساهل مع الشباب الا في النادر، ونحن لانمتلك ترخيص عمل، وعيشنا يعتمد على هذه البسطة الصغيرة، لذلك احرص على ابعاده ولا يأتي الا ليوصلني في الصباح ويرجعني في المساء الى البيت، واحيانا اذا ما شعرت ان المنطقة امان يجلس معي quot;.


هجومات البلدية المباغتة تحدثت عنها زينب ، الشابة ذات السبعة عشرة ربيعا من مدينة الصدر قائلة quot; كان يوم الجمعة هو يوم ازدهار السوق، ولا تأتي فيه البلدية، اما الفترة الماضية اصبحت تأتي كل جمعة تقريبا quot;.
وحول الاجراءات المتبعة ضدهم في حالة القاء القبض عليهم قالت زينب quot; البلدية لاتحجز او ترحل احدا ، فقط تقوم بمصادرة المواد واخذها ، اما الترحيل والقاء القبض فلم اسمع به من قبل quot;.
فيما علق بعض اصحاب البسطات على الموضوع ان البلدية لاتفرق بين عراقي وسوري وفلسطيني او اردني، انما يتركز همها في تنفيذ القانون الذي يمنع وجود البسطات على الارصفة، وان حال الجميع واحدة، فالكل معرض لمصادرة بضائعه وهي العقوبة التي تتبعها البلدية في الوقت الحالي للمخالفين.
واضافت زينب quot; بعض اصحاب المحال يساعدونا ويقدمون لنا الحماية اذا ما جاءت البلدية ، والبعض الآخر هو من يشتكي ضدنا عند البلدية لانه يعتبرنا ننافسه في رزقه quot;.
العراقيات اللواتي يعملن على هذه البسطيات في اغلبهن ينحدرن من مناطق فقيرة مثل الشعلة والثورة والحسينية.


اما أم عماد، فتتحدث عن بيتها في حي العامل بحسرة وهي تقول quot;تركوا لنا عند باب الدار قبل اكثر من عام ونصف تهديدا ممهورا باطلاقة نارية، اخذت ابنائي الاربعة وجئت الى عمان ، هنا افضل من المخيمات التي نصبت في بعض المناطق لأيواء المهجرين في العراق، على الاقل نأكل بكرامتنا وبتعبنا quot;.
واضافت quot; صحيح غلاء المعيشة هنا كبير والتعب اكبر حيث تصل ساعات العمل الى اكثر من اثني عشرة ساعة في اليوم ، لكنها افضل من البقاء في العراق وفقدان الابناء quot;.
ولدى سؤال احدى النساء ( ماذا تفعلين هنا ؟ ما الذي اتى بك من العراق؟ ) ردت بكلمة واحدة مختصرة وجامعة في آن واحد، وبلهجة الجنوب التي تألفها كل اذن عراقية عانقت الفرات وبحسرة على بلد لم يكتف بنهرين ، فاضاف لهما ثالت ينبع من شرايين ابنائه ، quot; الضيم quot;.


احدى النساء عبرت عن استيائها مما يحصل للعراقيين في الداخل والخارج ، فالكل مثقل بهموم لاحد لها quot; قبل فترة جاءت منظمة انسانية وقالوا سنساعدكم ونرسل ابنائكم الى المدارس ، التقطوا لنا الصور وعملوا معنا لقاءات وذهبوا ، ولم نحصل لا على المساعدات ولا دخل ابناءنا المدارس quot;.


العوائل التي تعيلها هذه النساء تضم الاطفال في سن المدارس، وهو الامر الذي تحدثت ام دعاء عنه قائلة quot; لااحد يريد ان لايتعلم ابناءه ، انا عندي بسطة وابني وابنتي يساعدوني فيها ، ما هو مسقبلهم ؟ هل سيستمرون على نفس الشاكلة ؟ لااحد يريد ذلك لأبناءه لكن القانون هنا يمنع هذا ، ومن جهة اخرى ليست لدينا قدرة مالية لأدخالهم للمدارس ، الاقساط مرتفعة ونحن نعمل لتوفير ايجار البيت والاكل والشرب فقط quot;.
من جهتها، قالت ام فاطمة ان quot; ابنتي ذات الاعوام الاربعة ترافقني دائما وهي تبقى معي من الصباح حتى المساء في الشارع، ولا املك من ابقيها عنده وأأتمنه عليها ، وفي نفس الوقت اخاف من تأثير الشارع عليها ، لكن ما باليد حيلة quot;.


بعض النساء اثنين على بعض المنظمات الانسانية التي قلن انها تقدم لهن المساعدات الانسانية والاغذية مثل الارز والسكر والبقوليات وبعض الاغطية والمدافيء في الشتاء وهي مفيدة على الرغم من محدوديتها وعدم احقية الاستمرار بها للعوائل ، فكل عائلة لاتحظى باكثر من مساعدة واحدة في العام ، اضافة الى مساعدة المصابات بامراض مزمنة منهن بالحصول على دفتر طبي يمكن من خلاله استلام الادوية لمعاجة امراضهن، ولكنه لايوفر كل انواع الادوية، وهو على كل حال افضل من اللاشيء.
اثناء التجوال والحديث مع صاحبات البسطيات العراقيات كان السؤال الذي يقفز الى لسانهن رغم تعدد الأساليب ، وهو بالعامية العراقية ( ها... ما سمعتو شي.. ماكو شي ) في بحث دائم عن اجابة لسؤال كلح لونه من كثرة طرحه حول متى يتحسن الوضع في العراق ؟ ولم نجد إجابة على السؤال.

أصوات العراق