أحمد ولد إسلم من نواكشوط: ما إن تتمهل قليلا بسيارتك في أحد الشوارع القريبة من سوق العاصمة نواكشوط، حتى يحيط بك شباب من كل الأجناس يتحدثون أي لغة تفهمها، ويتنافسون في عرض بضاعتهم عليك، وإقناعك باقتنائها، وعليك أن تكون مراوغا ذكيا حتى تتخلص منهم،..فهولاء الفتية لا يريدون منك أكثر من شراء أي عملة متداولة في العالم أو ان تبيع لهم ما عندك..
ولدى هؤلاء الذين بات يطلق عليهم محليا quot; حلابة السماءquot; - بسبب حركات أياديهم التي تعد النقود في الهواء، لاستمالة الزبائن- تجد كل عملة يمكن أن تحتاجها، وبالسعر الذي يحصل عليه الاتفاق معك والذي قد لا يكون بالضرورة هو سعر العملة في البنوك المعتمدة في موريتانيا..
إلا أن quot;حلابة السماءquot; في الشارع لا يعطون الصورة الحقيقة عن حجم التداولات في السوق السوداء لبيع العملات الأجنبية في نواكشوط، فحين تتجاوز مداخل السوق المفتوحة، وتتخلص من المتعلقين بأطراف ثوبك، والذين يبادرونك بالسلام الحار، والمناجين بصوت خافت، وتقنع هؤلاء جميعا أنك لا تريد بضاعتهم، ستجد في معترك السوق الباعة الحقيقيين، الذين تجد لديهم أي رقم تذكره، ولن يستغرق جمع مبلغ مليون أورو أو مليوني دولار، إلا ما يستغرقه إرجاع الصرف.


الثقة والحذر..
في أزقة السوق المركزية يتحرك عشرات الأشخاص من المتسوقين والباعة المتجولين، وحلابة السماء، لا توجد علامة مميزة لفئة quot;حلابة السماءquot; ولا وجود للافتات او لوحات إشهارية لمحلات صرف، وما على الداخل سوى أخذ الحذر فكل شيئ في هذه الساحة عرضة لعصابات النشل والسرقة، وتزوير العملات ولا يوجد عناصر شرطة يمكن اللجوء إليهم للنجدة..
يحدثنا أحمد ولد محمد يرب بأسى عن أحد زملائه راح ضحية لعملة مزورة حيث بذكاء بالغ سلمت له مجموعة من الشبان الأفارقة مبلغ عشرة آلاف دولار، ولكي يتأكد من صلاحيتها أحذهم إلى إحدى المحلات التي تملك جهاز كشف العملات المزيفة، وبين الجهاز أن العملة سليمة تماما، وبعد نقاش حول السعر رفضت المجموعة المحتالة القبول بعرضه، فأعاد إليها المبلغ، وبعد التفاتة قصيرة للتباحث عادت المجموعة لتبلغه موافقته على السعر الذي حدد لها، وتسلمه مبلغ عشرة آلاف دولار ليعطيها مقابلها من الأوقية, لم يكن يخطر ببال البائع أنه وقع ضحية عملة مزورة، واكتشف بعد مغادرة اللصوص أن بحوزة مبلغ عشرة آلاف دولار مزورة وعليه سداد قيمتها بالأوقية للرجل الذي قرضه المبلغ..quot; كان ذلك نموذجا بسيطا لما تعرفه السوق من عمليات النصب والاحتيالquot;..يقول ولد محمد يرب وهو يحذرنا من مغبة الوقوع في الفخ.
ويقول محمد ولد أحمد أحد باعة العملات لإيلاف إن المتعاملين في السوق لكثرة ما عانوا من إهمال الشرطة لهم باتوا يفضلون أن تتم تسوية مشاكل الباعة والمتورطين في التحايل أو السرقة بين المتعاملين في السوق وفق العرف، وبعيدا عن المؤسسات الأمنية الرسيمة، ويمثل هنا عنصر التشهير أهم رادع للمتورطين في الممارسات المشبوهة، إذ يكفي أن يشاع بين الناس أن شخصا ما قام بتصرف مخالف للأخلاق، ليفقد مصداقيته في السوق ولا يجد من يتعامل معه ، إن ثبتت تلك التهمة، quot;فالثقة هنا أساس التعاملquot;.
رأي يؤكده محمد ولد سيديا الذي قال إن الشرطة الموريتانية تتساهل مع حالات الشكاوى التي تصلها منquot; حلابة السماءquot; فتوصي بأن يحلوا المشكلة بينهم في إطار توافقي، وهو ما يرى أنه ملاذ للمخالفين قوانين الدولة، والمنحرفين.
ويكفي أن تتجول قليلا بين الباعة لتدرك حقيقة هاجس الخوف الذي يعيشونه، فشبكات اللصوص وتجار المخدرات وعصابات تبييض الأموال تتربص بالباعة، لذلك وجدنا صعوبة في قبول أغلبهم للتصوير، وكان وجه الإعتراض في أكثر الحالات أنهم يخافون ظهور صورهم على الأنترنت فيكونون عرضة للمتابعة من طرف جهات غير مأمونة.


النزيف الحاد..
لا يعرف المتعاملون في السوق السوداء بنواكشوط تاريخا محددا لبداية نشاطها، إلا أن المراقبين الاقتصاديين يرون أن المضاربات في أسعار العملات الأجنبية بعيدا عن المؤسسات المصرفية بلغ ذروته مع السنوات السبع الماضية، حيث نشطت بشكل لافت عصابات التهريب وتبيض الأموال، وباتت السوق السوداء لتصريف العملات تشكل تهديدا حقيقيا للاقتصاد الموريتاني، مما استدعى من الحكومة الموريتانية القيام بحملة مداهمة واعتقالات في صفوف الباعة،في عامي 2004 و2005 وأغلقت حينها العديد من مكاتب الصرف غير المرخصة،أو التي يتاجر أصحابها بالعملات تحت لا فتات أخرى، ورافقت تلك الحملة الأمنية حملة إعلامية لتوعية المواطنين بمخاطر السوق الموازية وأضرارها على الاقتصاد الموريتاني.
وقد سجل سعر صرف الأوقية الموريتانية ارتفاعا ملحوظا مقابل العملات الأخرى عقب تلك الحملة و تراجع سعر الصرف إلى مستويات قياسية منذ أكثر عقد من الزمن، حيث وصل سعر الدولار إلى حدود275 أوقية بعد ماكان سعره أزيد من 300 أوقية فيما وصل سعر اليورو 320 أوقية بدل 410 زيادة على تحسن صرف الأوقية مقابل الفرنك غرب أفريقي، وهي الأسعار التي ظلت السوق تدور حولها طيلة الأعوام الماضية إلى أن جاءت الأزمة المالية التي عرفها العالم خلال الشهر المنصرم.


إلا أن تلك الحملة لم توقف نزيف العملة الصعبة في موريتانيا بقدر ما أعطت فرصة جديدة للباعة المتجولين الذين لا يتخذون مقرا دائما يمكن أن تداهمه الشرطة، وهم اليوم المتعاملون الأكثر نشاطا، والأقدر على التكيف مع كل الظروف.
ويرى الدكتور الهيبة ولد الشيخ سيداتي الباحث في الشؤون المالية الموريتانية أن تأثير هذا النوع من عمليات المتاجرة بالعملات له تأثير بالغ السوء في الاقتصاد الموريتاني لما فيه من فقدان السيطرة على المبالغ المتدوالةquot; ويضرب مثالا على ذلك حين ضخ البنك المركزي الموريتاني قبل أيام كميات كبيرة من الأورو لدعم العملة الوطنية في وجه الأزمة العالمية التي تجتاح العالم، لكن ما حصل هو أن هذه العملة باتت تهرب إلى بلدان الجوار الإفريقي كالسنغال ومالي، وهو ما جعل مساعي البنك المركزي تفشل في هذا الصدد،لاستحالة تأمين الأسواق الإفريقية.
وأضاف أن أكثر الناس يفضلون التعامل مع هذه الاسواق السوداء لما فيها من جاهزية دائمة فهي غير مرتبطة بوقت دوام محدد، كما أن أصحابها يحرصون على أن يكون هناك فارق في هامش الربح، ولايحددون سقفا لصرف المبالغ المطلوبة، مما يجعل الإقبال عليها أكثر من البنوك التي ترفض تصريف مبالغ كبيرة للأفراد خاصة في أوقات الأزمات المالية.


واعتبر ولد الشيخ سيداتي أن هناك حماية دائمة للسوق السوداء في موريتانيا لأن عددا من رجال الأعمال الكبار يستثمرون فيها لما فيها ربح شبه مضمون ويقفون ورائها ويوفرون الحماية للمتداولين فيها، وهذا يجعل القضاء عليها أمرا بالغ الصعوبة.
ووسط أزمة سياسية خانقة جعلت السلطات الموريتانية تولي اهتمامها لتأمين الدعم لانقلاب ما زال يواجه تحدي كسب الاعتراف الدولي والداخلي، وجد المتعاملون في السوق السوداء فرصة غير مسبوقة لجني ثمار مجهودهم، بعيدا عن أي رقابة..وعلى رصيد البلد من العملة الصعبة تحمل تبعات ذلك..