تسرب الأسئلة ولجان خاصة لأبناء كبار المسؤولين


نبيل شرف الدين من القاهرة: في ستينات القرن الماضي، وأثناء احتدام الحروب بين مصر وإسرائيل، أذاعت الأخيرة امتحانات الثانوية العامة عبر إذاعة صوت إسرائيل قبل الامتحان، كنوع من تحدي الإدارة المصرية في قدرتها على فرض السرية، فضلاً عن ضرب العملية التعليمية برمتها، لكن ـ والحمد لله ـ في زمن السلام لم نعد بحاجة لخدمات إسرائيل ولا غيرها، ولسنا مضطرين لأعداء من خارج الحدود، فقد جاء الزمن الذي أصبح العدو صناعة محلية، إذ يسرق جل الشعب المصري بعضه البعض، وينسف مستقبل أبنائه لقاء حفنة دراهم، أو مقابل رضا مسؤول كبير أو صغير في أحد الأجهزة الرقابية التي تعد تقارير الترقي لهذا الموظف أو ذاك، أو حتى الرشاوى الجنسية في بعض الأحيان.


هذا الطالب الذي يشتري أهم امتحان في حلقات العملية التعليمية في مصر، سيصبح خلال سنوات نائباً في البرلمان يزور الانتخابات باساليب البلطجة، أو مهندساً في الإدارة المحلية يقبل الرشوة بل ويطلبها، أو وزيراً يحيط نفسه بعصابة من اللصوص والسماسرة المستعدين لتقديم الخدمات لمن يدفع أكثرquot;.. هكذا تحدث مواطن بسيط أثناء انتظار ابنه أمام إحدى لجان الامتحانات بزجاجة ماء بارد وبعض الساندويتشات.


في اللحظة ذاتها كانت هناك سيارات حكومية، بعضها يتبع الأمن وبعضها الآخر يتبع العدل، أو جهات سيادية أخرى تتوقف أمام أبواب اللجنة الخاصة ليفتح السائق باب السيارة للباش تلميذ، ليؤدي الامتحان في لجنة خاصة تضم أبناء ضباط الشرطة والمستشارين في المحاكم ووكلاء الوزارات وكبار رجال الأعمال، حيث تتسم هذه اللجان بغرف مكيفة عادة، ويتحول فيها المراقبون إلى quot;جارسوناتquot; يحضرون المياه الباردة للتلاميذ، ناهيك عن الخدمات اللوجستية متمثلة في تزويد هؤلاء الأنجال بالإجابات النموذجية على الأسئلة، لتبقى مهمة التلميذ مقصورة على نسخ الإجابات بخط مقروء قدر الإمكان إلى ورقة الإجابة.


مدرس أمضى قرابة نصف قرن في العملية التعليمية في إحدى محافظات الصعيد ـ تحفظ على ذكر اسمه ـ يروي حكايته مع امتحانات الأنجال في مصر بمرارة قائلاً : quot;قدر لي أن أراقب عشرات المرات أبناء المسؤولين في اللجان الخاصة، حيث يدعون مرضهم، وكان يأتي ضابط مباحث ويأمرني بأن أذهب لشرب الشاي، وألا أحضر إلا في نهاية اللجنة، ثم يدخل معه مدرس كي يُملي الطلاب المحظوظون الإجابات النموذجية، وطبعاً أنا لست أحمد عرابي حتى احتج، فكنت مطيعاً جداً واسمع الكلام، ولا أملك إلا أن أقول حسبي الله ونعم الوكيل، يارب سامحني فأنا رجل فقير مريض ضعيف، عاوز أربي أربعة أبناء في رقبتيquot;

آليات الغش
وحسب حكايات تتواتر هنا وهناك في أنحاء مصر، فإن التلاعب يسبق الامتحانات ويواكبها ويعقبها، فقبل الامتحان تتسرب الأسئلة، وقد بلغ الاطمئنان بالمتورطين في هذا الأمر إلى درجة بيع الاسئلة في مكتبات عامة على قارعة الطريق في عدة محافظات مصرية، وأثناء الامتحان فهناك لجان خاصة تعقد لأبناء المسؤولين وأشباههم كما أسلفنا، ثم يعقب الامتحانات تلاعب في عملية تصحيح الأوراق ورصد النتائج.


يتحدث مدرس مخضرم عن الطريقة التي يجري من خلالها تسرب الامتحانات قائلاً quot;حين يكون لمحافظ الإقليم أو سكرتيره أو مدير الأمن أو ضابط المباحث، يتم تسريب الامتحانات خاصة في الأقاليم، سواء في الصعيد أو الدلتا، والذي يحدث أن يكلف المسؤول من يذهب إلى الكنترول ليطلب الاسئلة وبالطبع لا يستطيع أحد أن يرفض له طلباً، وبعد ذلك يستدعي المسؤول مدرسين أكفاء ليحلوا الأسئلة لابنه ويخرج المدرسون ليتصلوا بالتلاميذ الذين يتلقون دروساً خاصة لديهم حتى يبلغوهم بالامتحانات، وهكذا تتسع الدائرة وهذا الأمر عايشته بنفسي عدة مرات في محافظتي، وكان في ما مضى تجري هذه الأمور بحذر بالغ، وفي أضيق الحدود، لكن مع الفوضى الشائعة والاطمئنان المفرط لعدم المساءلة، لم يعد المسؤولون حريصين على السرية أو الحذر، وهكذا تناثرت الامتحانات لتصل النسخة الواحدة إلى أقل من عشرة جنيهات مصرية (نحو دولارين) فقط.


ويلتقط تربوي متقاعد من الرعيل الأول الخيط من زميله ليدلي بشهادته، معرباً عن دهشته لإثارة هذه الوقائع الآن تحديداً، وهي التي تتكرر منذ عقود في مصر، فيقول quot;ليس غريبا ان تحدث عمليات تسريب منظمة لامتحانات، فهذه مجرد حلقة من حلقات الفساد المنظم والمنهجي في هذا العهدquot;، ومازال الكلام للتربوي متسائلاً باستنكار: quot;لا أدري بأي وجه ستحاسب الحكومة تلك العصابات التي سربت الامتحانات لأبناء الضباط والمستشارين ونواب البرلمان ومسؤولي الإدارة وغيرهم، ألا تزور الحكومة الانتخابات العامة ثم لماذا ابناء ضباط الشرطة تحديدا؟، هل تفرغ هؤلاء للحصول على اسئلة الامتحانات لابنائهم الفاسدين .. ألا يستحق هؤلاء المحاكمة بتهمة استغلال النفوذ؟، هناك آلاف الأسئلة تحيط بتلك المهزلة وهي تساؤلات ستظل دون إجابة، لكن الإجابة الوحيدة المؤكدة أنه quot;لا شيء سيحدث وسيظل أبناء الفاسدين يحصلون على امتحانات الثانوية وغيرها وسيتخرجون ويحصلون على أرقى المناصب، ففي مصر، النجاح والثروة والوظائف الرفيعة هي أمور وراثية، لا حيلة لأحد فيهاquot; على حد تعبيره .

تحقيقات واتهامات
وبعد سلسلة من الفضائح عن بيع أسئلة امتحان الثانوية العامة في محافظة المنيا في صعيد مصر، وما نشرته الصحف وبثته الفضائيات تدخل النائب العام ليجري تحقيقات خلصت إلى توقيف عدد من المتهمين، وطلب تحريات المباحث حول الواقعة، كما ضبط طالب جامعي واعترف أنه حصل على اسئلة مواد quot;اللغة الانكليزية والتفاضل والتكامل وحساب المثلثاتquot; من شخص آخر يعمل موظفاً في وزارة الكهرباء في مركز quot;أبو قرقاص الذي هرب فور اكتشاف الواقعة والتحقيق فيها، كما قررت النيابة العامة أيضاً سرعة ضبطه وإحضاره ليمثل أمام جهات التحقيق.


وبالطبع لم تكن واقعة تسرب امتحانات الثانوية العامة للتلاميذ هي المرة الأولى التي تحدث، ولن تكون الأخيرة، ففي الصعيد حيث تعقد لجان امتحانات خاصة لأبناء المسؤولين والضباط وكبار رجال الأعمال لدرجة أنهم ينقلون أبناءهم من العاصمة القاهرة أو الإسكندرية إلى الصعيد بحيث يؤدي أبناء هؤلاء المسؤولين الامتحانات في لجان خاصة من فئة الخمس نجوم، حيث يلقون عناية فائقة بدءاً بالفصول المكيفة، وصولاً إلى تسليم الطلاب أوراق الإجابات النموذجبة التي أعدها معلمون على أرفع مستوى يؤتى بهم خصيصاً للإجابة على أسئلة الإمتحانات في هذه اللجان المعدة تحت سمع وبصر الحكومة، ووسط حالة من التعتيم والتواطؤ العام على ما يجري.


يتساءل أحد أولياء الأمور قائلاً: لا أفهم لماذا يغضب الناس من تسرب امتحانات الثانوية، بينما هناك ما هو أفظع من هذا، وهو ما يحدث في الجامعات مثلاً، وخاصة جامعة المنيا حيث يقوم الأساتذة بتعيين ابنائهم وزوجاتهم معيدين عن طريق التلاعب فى الكنترولات والطلاب الذين يكدون ويسهرون الليالي يحصلون على درجات متدنية حتى لا ينافسوا أبناء الأساتذة، لهذا لم يعد غريباً أن يجد المرء أعضاء هيئات التدريس في شتى جامعات مصر مجموعات عائلية، فهناك الأساتذة وأنجالهم وزوجات أنجالهم، وبناتهم وأزواج بناتهم وهكذا إلى ما لا نهاية في مختلف الهيئات الحكومية المصرية، من الخارجية إلى الداخلية إلى التلفزيون، ومن العدل إلى قطاعات ثرية كالبترول والمصارف، وصولاً إلى الفن والصحافة .
[email protected]