يستيقظ السيد الرئيس ببدلته الرسمية، المرصعة بنياشين امجاد مضت. وكان قد نام بها، معقودة الازرار على ضميره الغارق في دماء ولحوم الخونة والمتآمرين على مستقبل هذه الامة. يستيقظ، فتستيقظ معه كل كوابيسنا.


لكنه استيقظ، هذه المرة، ليجد نفسه بلا بدلة رسمية، وبلا مرآة تكرر عليه امثولة السائر، في الفاظ خطبه الملحمية، الى منصة التاريخ، هناك ؛ حيث الهياكل العظمية لضحاياه، كانت تصفق له بين كل مفردتين من مفردات فصاحته الزقاقية الغامضة، تلك التي عمل مثقفو الحزب، وكتبة تقاريره على ترصيعها بابيات شعر، مستعارة باهتمام مبالغ فيه، من قصائد شاعره القرد العمودي. باقات من التصفيق، عمل مثقفو الحزب على زرعها له بين المفردة، والمفردة التي تليها. وكان حين يلحن في جملة من جمل فصاحته الزقاقية، يأمر بكاتبها المسكين، فيقطع لسانه ويحشر، حشرا، في ثقب مؤخرته. او يأمر به، فيسلخ جلده، ولم يزل بعد حيا، امام كتبة وشعراء لم يتوقفوا عن التصفيق، الا ليعودا اليه بحماسة... اين منها حماسة القوالات والرداحات في مأتم.


ولكنه استيقظ، هذه المرة، ليجد نفسه في قفص الاتهام. وكانت عيون آلاف من الجرذان تطل من عينيه، المحدقتين في كل اتجاه، الى افراد حماية متوهمين، فروا هرابا من اسوار قصره، ما ان سمع دوي الرصاصة الاول في عملية غزو العراق.
ظل يحدق، او يطيل النظر هنا وهناك، الى ان استقرت عيناه في عيني القاضي الصارمتين والضاحكتين، في آن معا، من ضجة الجرذان الخائفة المرعوبة في عيني السيد الرئيس.


خاطب الرئيس نفسه، قائلا : كيف يجرؤ هذا العراقي المتشح بالسواد الوقور على ( احتلال ) منص(تي )، الم يصله ان كل منصات الامة محجوزة لي؟


كان يستمع الى ما يقوله القاضي بأذنين ذابلتين ناعستين من سآمة وملل، اذ لم يفقه كلمة واحدة
مما كان يقال له : دستور، جرائم انسانية، قانون، حقوق، ضحايا، الى ما آخر ذلك كله، من كلاوات وهرطقات قدمت مع المحتل على ظهوردباباته. كان يعجب، في سره، من فقر خطبة هذا الكردي العراقي المتشح بالسواد، فما كان منه سوى الطلب اليه، السماح له بامتطاء صهوة المنبر الغالي، لتلقين المستمعين الاعزاء درسا في الخطابة، وسوف لن يستعير ابيات شعر من مطولات شاعره القرد ؛ فقد اصبح، هو الرئيس ذاته، شاعرا لا يشق غباره ؛ الم ينصب نفسه قائدا اعلى للقوات المسلحة، بمرسوم جمهوري دستوري كتبه، ووقع عليه، وتلاه في خطبة، هو، هو، هو الذي لم يخدم يوما واحدا في الجيش، الذي هو، اليومَ، قائده وملهمه الاوحد، مالكم كيف تحمكون؟


كان يعلم، بحكم تجربته الخطابية العريقة، في امة الخطابات والخطابات المضادة، نوعية الخطب التي تهز مشاعر الامة، المستغرقة في سباتها الملحمي، خارج جدران المحكمة.
طلب من اصدقائه الامريكان الملاعين، بناء قفص له في دار الاذاعة والتلفزيون، مقابل تخليه عن لقبه كزعيم للامة.
وجوبه طلبه برفض قاطع، لان حفدة الرومان، اي الامريكان، لا يحبذون قتل الوقت في الاستماع الى خطب اودت بحبيبها وصاحبها ذاته، الى المجد والسؤدد في قفص كهذا. لكنهم رضخوا اخيرا، خشية منهم على ارواحهم من سخطة الامة، فنصبوا له كاميرا في قاعة المحكمة، فهش لها وبش، كرضيع تلقى بفم وردي خال من الاسنان ثدي امه العائدة اليه من سفر طويل، وقعد وقام، واقام واقعد، وابكى واطرب، وصلى وصام، وكر وفر، وزعل فادبر، ورضى فاقبل، وتشقلب فاثار حماسة الامة، وزعق فمادت الارض بالامة، وصمت فاثار حفيظة الامة ؛ ( من خرا بيها من امة ) كان يصرخ حين ينقطع التيار الكهربائي، فيتوقف البث، فتنقرض، في هدير صوته، الامة.


كان بعض من خيرة شباب الامة، يفجرون لحومهم في حشود العراقيين، خارج جدران المحكمة، يفجرونها على وقع صهيل الخيول الصافنات، وانين سبايا الفتوحات، وصليل السيوف الباترات، في صوته، صوت ضمير الامة.
كانت الامة، في سباتها الملحمي القيامي، تحلم به، خارجا من قاعة المحكمة على كتفي شاعره القرد الدامع العينين من فرح بسيده القديم، والذي اسبغ عليه، ذا يوم، ومن اثناء مطولة له عصماء، القابا نبوية والهية لم يسبقه بها من احد في العالمين.
الامة، الآن، توسوس بقصائد نثر شيطانية مسجوعة، كعهدها في ازمنتها الغابرة، على عتبات مراحيضها وضميرها، في آن معا : اللهم اعد الينا، وفينا، وعلينا، وبنا، فحل هذه الامة. فقد كان، هو، رجلها حقا وصدقا. وكانت، هي، تلك العجوز المتصابية المهدمة الكيان، والتي استبدت بها عواصف الغلمة.
وكان، وكانت.