العراق الجديد والوضع الجديد ووو... الجديد جمل ومصطلحات رددتها وروجت لها أحزاب المعارضة العراقية فور دخولها الى العراق بعد سقوط نظام الرئيس العراقي السابق صدام حسين عام 2003 بل إن بعض هذه الأحزاب دأبت على ترديد هذه الجمل منذ أيام المعارضة مُمَنّية العراقيين بغد مشرق لعراق جديد.. وقد بادر أغلب العراقيين وكنا منهم لأخذ هذا الكلام على سبعين محمل حسن وتحلى الكثيرون منهم ولايزالون بالصبر لتحقيق هذه الوعود وتطبيق هذا الكلام على أرض الواقع ولكن يوماً بعد آخر تبين زيف هذه الوعود وكذب هذه الإدعائات التي لم تكن سوى سلماً إتخذته أغلب الأحزاب والشخصيات السياسية العراقية(إلا مارحِم ربي)للوصول الى السلطة حتى إذا تحقق لها ذلك قلبت ظهر المجن للعراقيين وتركتهم ضحية وفريسة للأوضاع والظروف السيئة التي أفرزها وصولها للسلطة ومارافقه من صراعات وفساد ومؤامرات.. ورغم أن بسطاء الناس مازالوا ينتظرون ويُمَنّون النفس يوماً بعد آخر برؤية عراق جديد ووضع جديد بكل معنى الكلمة إلا أن الوقائع تقول بأن العراق يزداد يوماً بعد آخر قِدماً وتخلفاً وتأخراً وتراجعاً عما كان عليه ليس فقط قبل سنوات بل قبل عقود طويلة.
فبعد أن كان أغلب الأطفال العراقيين يرتادون رياض الأطفال والمدارس وينعمون في الكثير منها بأفضل وسائل التربية والتعليم وبوجبات تغذية مجانية بات أغلبهم هائمين على وجوههم في الشوارع إما للتسول أو كعمالة سوداء لأعالة عوائلهم التي أنهكها الوضع الجديد للعراق الجديد أما من يرتادون منهم المدارس فيفتقرون الى أبسط شروط ومقومات التربية والتعليم!
أطفال العراق الجديد!
وبعد أن كانت النساء العراقيات من أكثر نساء الدول العربية والشرق الأوسط تمدناً وتحضراً في وعيهن وثقافتهن وملبسهن ونمط حياتهن ووصلن بفضل الظروف التي أتحيت لهن الى أعلى المستويات نراهم اليوم موشحات بالسواد من رؤوسهن حتى أقدامهن إما حزناً لفقدان أب أو زوج أو أخ أو إبن إستشهد بحرب أو بحادث إرهابي أو بيد ميليشيات أحزاب العراق الجديد وإما تحجّباً وإلتزاماً منهن بالزي الموحد(الشَرعي)الذي تفرضه أجواء العراق الجديد على النساء بدل الأزياء الحديثة المتعارف عليها كالبلوز والقميص والتنورة والبنطلون(المحرمة شرعاً) والتي باتت النساء تقتل في حال إرتدائها لها!
نساء العراق الجديد!
وبعد أن كان الشباب العراقي مثقفاً واعياً ومطالعاً نهماً لأي كتاب يقع بين يديه بغض النظر عن طبيعة موضوعه ومايطرحه من أفكار ومواظباً على متابعة أحدث صرعات المودة وآخر الفنون من غناء وموسيقى وسينما والأهم من هذا وذاك طَموحاً محباً للحياة مقبلاً عليها بكل عنفوان الشباب بات أغلب الشباب العراقي اليوم خاملاً محدود الوعي والثقافة فقد عاد في وعيه وثقافته وملبسه وسلوكه ليس فقط عشرات بل مئات السنين الى الوراء وباتت تغلب عليه وتسيطر على أفكاره وعواطفه التوجهات الدينية التي تقيّد مظهره وملبسه ومأكله ومشربه وتحركاته وعلاقاته مع الآخرين بل وكل حياته وتربكه بمصطلحات (الحلال والحرام والشرعي وغير الشرعي والمستحب والمكروه والإضطرار والإحتياط والثواب والإستخارة و..) وغيرها العشرات من المصطلحات الروزخونية التي باتت اليوم الشغل الشاغل للشباب العراقي بدلاً من أمور الفن والعلم والثقافة!
وبعد أن كان العراق مليئاً بالكفائات الثقافية والعلمية من أبنائه كتاباً وشعراء وممثلين وموسيقيين وأطباء ومهندسين وأساتذة مدارس وجامعات وعلماء في شتى ميادين العلم والمعرفة والثقافة دَرَس بعضهم في داخل العراق فيما تخرج البعض الآخر من أرقى الجامعات العالمية وعاد الى أحضان الوطن ليساهم في بنائه وتنشأة أجياله تم الآن قتل وتصفية وإبادة المئات منهم فيما يعيش من نفذوا منهم بجلودهم مشتتين في شتى أصقاع الأرض وبات العراق اليوم مليئاً بالعمائم الطائفية من بيضِها الى سودِها التي باتت تتحكم بكل مفاصل الحياة في العراق وتعمل منذ أربع سنوات على صياغة وعي جمعي جاهل متخلف يُسهِّل لها السيطرة على عقول الناس والتحكم بها.
إن العراق يعيش اليوم أكثر أوقاته تأخراً وتخلفاً منذ ثلاثينات القرن الماضي من جميع النواحي وفي جميع الميادين وعلى جميع الأصعدة فأين التجديد في الموضوع؟ وكيف يجروأ بعض الساسة والمثقفين على وصف العراق حالياً بالجديد وكل مافيه يوحي بأنه قديم قديم؟.. فلِكي ينطبق على الوضع الحالي مصطلح الجديد لابد أن يمتلك ويلبي مواصفات هذا المصطلح وأن يكون مختلفاً عن مواصفات مصطلح القديم الذي سبقه ومعاكساً لها أما أن يكون مثله أو أسوء فهو إذاً لا يُلبي مواصفات هذا المصطلح.
فلو كان المقصود بالجديد هو السير للأمام فالعراق منذ 5 سنوات ليس فقط يعود بل يُهرول ويركض للخلف فكل شيء فيه في تراجع من حقوق المرأة والطفل والإنسان عموماً الى قطاع التعليم وقطاع الصحة وقطاع الإقتصاد فنساء العراق يعشن اليوم أسوء أيامهم وشوراع العراق مليئة بالأطفال والعجزة المتسولين والمعاقين الذين لم تعد هنالك دور لرعايتهم وإن وجدت فحالها لايَسُر عدو ولاصديق أما الجامعات والمعاهد والمدارس ومراكز البحوث هذا إن وجدت فمستواها العلمي في تراجع مريع حسب تصنيف وتقدير المنظمات العالمية المعنية بهذا الشأن أما قطاع الصحة فمأساة ومستشفياتنا ومستوصفاتنا إن وجدت فحالتها كارثية فالخدمات الصحية باتت شبه معدومة لذا يموت يومياً العشرات من العراقيين المصابين بأمراض غير خطيرة والذين كان من الممكن إنقاذهم لو توفرت هذه الخدمات التي ماكانت لتكلف المسؤولين المعنيين بهذا القطاع والمشغولين(باللغف) لو أرادوا توفيرها أما قطاع الإقتصاد فحدث ولاحرج وقد تحول الى قطاع الفهلوة وشيلني وأشيلك والصفقات الوهمية وبات العراق بلداً مستهلكاً 100 % بعد أن كان الى وقت قريب مصدراً لبعض المنتجات وياليته كان مستهلكاً لبضائع جيدة بل لقد بات المستهلك الرئيسي لأردء أنواع البضائع التي تأتيه من دول الجوار.
وإذا كان المقصود بالجديد هو المتطور فالعراق اليوم من أكثر دول العالم تخلفاً علمياً وثقافياً وإجتماعياً.. فمعامِلنا اليوم هذا إن بقيت لدينا معامل غير قادرة حتى على تجميع ولا أقول تصنيع إبرة بعد أن قامت ميليشيات وعصابات (الوضع الجديد) بتدميرها وتفكيكها وبيعها خردة الى دول الجوار تحت سمع وبصر وأمام عين أحزاب (المعارضة الوطنية) وجحافل (المحرر الأمريكي).. أما جامعاتنا ومعاهدنا ومؤسساتنا التربوية والتعليمية فقد تحول أغلبها الى كتاتيب لتخريج الملالي والقرّاء والرواديد والروزخونية بدلاً من تخريج الأساتذة والعلماء والباحثين والأكاديميين وهو مابتنا نلمسه من خلال عودة الوعي الجمعي لشعبنا ومجتمعنا عقود وربما قرون الى الوراء.
وإذا كان المقصود بالجديد الحديث فالعراق اليوم ليس فقط قديم بل و(عليه أطنان تراب وَمَليان طوز) وكل مافيه من شوارع الى بنايات الى سيارات الى طرق معيشة بات مهترئاً من القِدَم بل بات حال بعض مدننا أشبه بحال مدن القرون الوسطى تملئها النفايات ورائحة الموت وأكوام الجثث المجهولة الهوية وتحولت بعضها الى خرائب بسبب ماتقوم بها قوات الإحتلال والتنظيمات الإرهابية والميليشيات الطائفية التي باتت تمثل ماركات مسجلة للوضع والعراق الجديد.. أما الحداثة على مستوى الفكر والفن والثقافة فإختفت لأنها بنظر أحزاب العراق الجديد كفر وإلحاد ومروق عن الدين فأي عمل فني حداثي وأي فكرة فلسفية حداثية وأي نتاج أدبي حداثي هو شبهة من وجهة نظر رجال العراق الجديد التي ترى بأن كل شيء يجب أن يخرج أو على الأقل يمر عبر فلتر الجوامع والحسينيات لتقرر شرعيته من عدمها أما المسارح والصالات الفنية والقاعات والمراكز الثقافية فيراها البعض أماكن للرجس والرذيلة لذا دُمِّرت وأهمِلت وأصبحت في خبر كان وحال مسرح الرشيد خير مثال على ذلك.
لن يصبح العراق جديداً سوى يوم ننفض عنه(الطوز والغبار والوعث)الذي حط عليه من النوافذ الخارجية ونعيده من حيث أتى فلقد كان العراق جديداً و(بالسيلوفين) وكان من الممكن أن يكون له ولشعبه مستقبل مشرق فعلاً لو بقي الحال على ماكان عليه قبل 1958 يوم كانت السلطة في العراق تمسك بها وتديرها نخبة علمانية ليبرالية أما بعد ذلك التأريخ فقد زحف العوام مدججين بثقافاتهم القبلية والدينية الى السلطة وبعد أن إنصاع وصفق لهم الرعاع بدؤا يعودون بالعراق الى الوراء والى القدم حتى بات آيلاً للسقوط كما هو حاله اليوم وقد يؤدي الأمر الى إنهياره وزواله من الوجود لاسمح الله إذا إستمرت مثل هذه النماذج في حكم العراق.. (ذِبحونة قال العراق الجديد وحجة العراق الجديد وقالت الحكومة المنتخبة وحجت الحكومة المنتخبة) ياجديد يامنتخبة!..فعلاً إذا لم تستح فإفعل بل وقل ماشئت وهذا هو حال من لايزال يردد هذه المصطلحات الكاذبة والزائفة سواء من السياسيين أو الكتبة المصابين بعقدة الماضي والمنتفعين والقفاصة ووعاظ السلاطين.. وهنا تحضرني أغنية للمطرب العراقي المتألق حسام الرسام الذي بات يمثل صوت العراق الجريح أدعو أمثال هؤلاء الى سماعها والتي يقول مطلعها:
مو كالو جديد الوطن راح يصير
وأترك لهم الإستمتاع بباقي الأغنية.
مصطفى القرة داغي
التعليقات