قبل فترة ليست بقصيرة أشرت إلى مغزى مصطلح جلعود. وهو مصطلح لغوي للتعريف بالنظام القائم الذي يتزعمه السيدان جلال طالباني ومسعود بارزاني، ولا يحمل أي دلالات أخرى. فكما نعرف نظام العفلق أو نظام البعث أو النظام الناصري أو الأتاتوركي، وجدنا المصطلح المذكور الأنسب للتعريف، وهو مشتق من إسمي الزعيمين المتسلطين على حكم كُردستان.

لا يعلو خُلق فوق الرحمة والرأفة، ليس فقط بالإنسان، بل بكل ذي روح في هذه الحياة. يصف الله سبحانه وتعالى نفسه بالرحمن الرحيم. الرحمة بالإنسان فضيلة عظيمة وخصوصاً باؤلئك الذين لا قدرة لهم للدفاع عن أنفسهم. الأسرى والسجناء هم أضعف البشر، وأكثرهم ذلّة. إن أشهر مأثرة من مآثر رسول الاسلام محمد (ص) هو عفوه وتسامحه. ففي معركة بدر أطلق الرسول سراح الأسرى اليهود لقاء تعليم أولاد المسلمين!
صلاح الدين الأيوبي اشتهر عالمياً، لتسامحه مع أعدائه في واحدة من أحلك مراحل البشرية، وأكثرها وحشية.
في القانون العالمي، يُمنع قتل الأسير وتعذيب السجناء. والأمر أكثر إلحاحاً إذا كان السجين محبوساً، لرأي أبداه أو سياسة ذهب إليها.

عانى الكُرد من التعذيب والقتل والدمار. وناضل هذا الشعب المظلوم من أجل الحرية والإستقلال طويلاً. هناك حوادث كثيرة تقشعر لها الأبدان، عاشها الإنسان الكُردي في سجون الظالمين، من أنظمة فاشية ودكتاتورية في الدول الإقليمية.
لكن ما لم يكن في الحسبان هو خروج جلّادين وفاشيين من صفوف الأكراد، لتعذيب أبناء جلدتهم، تماماً كما كانت الأنظمة الجائرة تلك تفعل بهم ما لا تطيق له السماوات والأرض.
وللأسف البليغ، أصبح ذلك واقعاً في سجون كُردستان الخاضعة للنظام.
أود أن اقول للقارئ الكريم، إنني في ما أرويه أخضع نفسي للصدق تحت القسَم، وتحت طائلة المسئولية القانونية، لكنني لا أكتب أسماء من سمعت منهم حفاظاً على أمنهم الشخصي. ونؤجل تدوين ذلك إلى المستقبل لدى جهات دولية رسمية.

التقيت بإمرأة ومعها ثلاثة أولاد صغار، أكل الدهر منها ومن أولادها وشرب.
كنت أستمع اليها وكلّي خجلٌ وحزنٌ ومأساة. حدثتني كيف تحرش بها رجال الأمن
اثناء إستجوابها بسسب زوجها المفقود، الذي كان يقاتل في صفوف منظمة (أنصار الإسلام) أو هو مشتبه به.
قالت: إن اكثر من (رجل) من رجال الأمن، إستفزوها و تحرشوا بها محاولين الإعتداء عليها. حتى أن أحدهم كان قد سألها عن سبب إحتشامها وحجابها، طالباً منها خلع ذلك وخلع...!!
كانت تتوقف عن الكلام بين فينة وأخرى، بسبب إحتباس البكاء في حنجرتها ومآقيها، وتستأنف الحديث ريثما تهدأ نفسها، وهي تستجلب من الذاكرة بمرارة آلامها مع رجال الأمن!

إثنان من اليساريين، في أحد السجون التابعة لنظام جلعود، أصيبا بالإغماء لعشرات المرات، بسبب هول التعذيب الذي كانا يلاقيانه كل مساء!

التقيت بخريج إحدى الكليات غارقاً في حزن كئيب، وهو يروي لي الصعقات الكهربائية التي تلقاها خلف مؤخرة رأسه، بآلة يدوية في يد الجلّاد.
قال: إنه في مساء ما، صُعق بالكهرباء ولم يفق من غيبوبته إلا في صباح اليوم التالي، لاقياً نفسه بين كومة من السجناء الراقدين كالموتى، وهم يئنون من شدة الآلام.
كان من بينهم يساريين، إسلاميين، وأفراد تابعون لحزب العمال الكُردستاني، حسب شهادة ذلك الشاب الجامعي الذي أكد تعرض معظم السجناء إلى ضرب شديد بـ (الكيبل).
وروى لي أن الجلّاد كان يلبس كفّاً في يده اليمنى، من مادة صلبة، وكأن فيها الحديد أو أسلاك معدنية. أثناء الحديث ضرب الجلّاد كفّاً على مؤخرة رأسه وأرداه في غيبوبة لليلة كاملة!
إلتقيت به في عام 2006، وأخبرني أنه ما زال يعاني آلاماً مترددة بين فينة وأخرى، بعد مضي أعوام على ذلك!

أحد الرجال، وهو اليوم به فالج من جراء تذويب قطعة كبيرة من الثلج الإصطناعي فوق ظهره، بالإضافة إلى ضربه بالأسلاك والخرطوم الغليظ، يلازم الفراش بشكل دائم منذ أعوام. الرجل حيّ يرزق لكنه مشلول بدرجة كبيرة، ولا يقدر على التحرك.

أعتقل شاب، بتهمة العلاقة مع الإسلاميين، لمدة أشهر. خرج من السجن، وقبل خروجه إستفسر من مسؤوليه عن سبب إعتقاله، فقالوا له حبسناك حتى تعهر إمرأتك!
هناك سجين في أحد السجون التابعة لمدينة اربيل، ولم ير نور الشمس منذ تسعة أعوام ( هذا في العام الماضي ولا نعرف مصيره الآن).
سجّان ما، أخبر رئيس جماعة كُردية إسلامية، علّه يقدر أن يقوم بشئ من أجله!

هناك سجناء فقدوا ما يقارب من ثلاثين كيلوغراماً من وزنهم، بعد الصعقات الكهربائية وممارسة اللواطة القسرية معهم، من قبل عناصر خاصة!
حين يزور الصليب الأحمر تلك السجون، يقوم النظام بإخفاء السجناء.
يستعملون أحيانا سيارات الإسعاف، لتواريهم عن الأنظار ريثما تنتهي زيارة المندوبين الدوليين.
في إحدى محاضراته، أقرّ الشيخ عبدالغني طه، عضو قيادة الحركة الإسلامية سابقاً، أن مجموعة من الشباب المتدين أعتقلوا بسبب دراستهم للقرآن في المساجد، وقام أحد الجلادين بالإستمناء على القرآن الكريم أمامهم، قائلاً في نفس الوقت أنه سيعرض عليهم صورة الله بالألوان (والعياذ بالله)!، المحاضرة مسجلة على شريط كاسيت.
هذا النوع من الإهانة تكررت في أكثر من موقع في سجون جلعود!
في عام 2003 كتبتُ مقالاً باللغة الكُردية، نقدت فيه أنصار الإسلام وممارساتهم، وذكرت بعض مثالبهم. في إثر ذلك تحدث معي شخص كان سجّاناً في الماضي، وكان عضواً في أحد الحزبين المتسلطين في كُردستان.
قال لي: كنت أرى بعينيّ كيف يلاقي شباب متدين، أبشع أنواع التعذيب والإهانة.
بالطبع هذه الحالات ليست معزولة وليست فردية، بل يشرف على ذلك مسؤولون كبار ببرنامج مدروس، لتخويف الشعب وترهيبه، وكذلك لإرهاب الأحزاب والحركات الصاعدة المعارضة.
هناك نوع خاص في قتل السجين الذي يحكم عليه بالإعدام.
يُلبّس سروالاً كُردياً وهو فضفاض، ويربط من تحت بشريط، ثم يُترس السروال بالأحجار الثقيلة. تُربط أيادي السجين من الخلف ويقال له: سنرميك في النهر، أنت وحظك! إن نجيت فلك ذلك، وإلا فعليك ذنبك! ويُرمى في النهر.
هذه الطريقة، تستعمل ضد النشطاء السياسيين المعارضين.
من المضحكات المبكية مطالبة الإتحاد الوطني الكُردستاني رسمياً، من الحزب الديموقراطي (لاحظ كلمات: الوطني، الديموقراطي، الكُردستاني!) قبل فترة، إعتبار حوالي مائة عضو تابع له بالشهداء، لأنهم اليوم في عداد المفقودين! والمفقود يعني الذي قُتل تحت التعذيب وأخفيت جثته إلى الأبد!

الجماعات الإسلامية تعرف الكثير من هذه الجرائم العظيمة، لكنها ساكتة عن قول الحق وفضح هذا النظام الجائر بحجج واهية، لأنهم مرعوبون خائفون!
فالشيخ علي بابير وشي به من قبل نظام جلعود، لدى السلطات الأميركية، وأدخل السجون في بغداد حوالي سنتين، كسّر في خلالهما الأميركان أضلاعه تكسيرا. وقصفوا مقراته وقتلوا من جماعته 65 شخصاً، مع عشرات الجرحى!
أما السيد صلاح الدين بهاء الدين زعيم الإتحاد الإسلامي، فقد ضُرب من قبل عناصر مخابرات جلعود داخل المركز الإنتخابي، أثناء الإقتراع بطريقة مهينة جداً!
هذا بعد الهجوم الوحشي الإرهابي على الكثير من مقراتهم، مما جعل الإتحاد الإسلامي يتيقن أن المذبحة تنتظره، مثل ما فتكت بإسلاميي الجزائر والأماكن الأخرى!
يختار النظام أشخاصاً معينين للقيام بهذه المهمات الخاصة، وهم ينحدرون من الطبقات الدنيا من المجتمع، وعاشوا القتال والمعارك لآماد طويلة، وتحولوا إلى عناصر مريضة ومتوحشة، لا تأبه بموازين الإجتماع وعلائقه وأسسه.
نوع آخر من التعذيب هو إدخال قطة في سروال السجين، وهو مربوط اليدين بالسقف.
طريقة أخرى يستعملها النظام، وهي حلق رأس السجين ثم وضع طاسة مفتوحة الرأس فوقه، وهي مثبتة تمنع الرأس من التحرك. السجين مربوط اليدين والرجلين ثم تنزل قطرات ماء بارد فوق رأسه.
قلع الأظافر، الضرب بالأسلاك الكهربائية السميكة، الكوي فوق الجلد من الطرق المشاعة في تعذيب السجناء.
وقد عرض الحزبان الديموقراطي والوطني، أدلة مرئية على شاشات التلفزيون، ضد بعضهما البعض، بيّنت ممارستهما للتعذيب ضد الأسرى والسجناء، أثناء الحرب بينهما!
هناك أشخاص معينون في مدن كُردستان، وبقايا آثار هكذا تعذيب بادية بوضوح على أجسامهم. أحدهم في إحدى المدن كوي جسده حتى تخثرت الدماء في رجليه. إضطر لإجراء عملية جراحية لإخراج الدماء الموبوئة، كلّفته عدة آلاف من الدولارات!
الإهانات اللفظية ضد العقيدة: الله، القرآن، الإسلام وكذلك ضد العرض والشرف شئ روتيني في السجون.
قبل أعوام أسرت إحدى مقاتلات حزب العمال الكُردستاني، وتوثب عليها ثمانية (رجال) مسلحين. إغتصبوها واحداً بعد آخر، قبل أن يحول هؤلاء (الرجال) جسدها إلى منخل من كثرة الرصاص المستعمل ضدها.
الشيوعييون، واليسارييون يواجهون تعذيباً وحشياً وغريباً في هذه السجون. هناك مساجين يعيشون بين الموت والحياة: إنطواء ثقيل وعميق على الذات، بكآبة طويلة ومتحدقة لساعات طوال دون أي حركة أو سكنة، وكأن الشخص هيكل حجري يحدق في نقطة معينة.
الأجساد هناك معدومة من الحياة، لكنها تحيا لتتعذب ولتذوق المرارات التي لا تطاق!
على أن الجرائم ليست حكراً على الإسلاميين أو الشيوعيين أو المعارضين السياسيين فقط. فقبل أعوام كانت هناك إمرأة مسيحية تعمل خادمة لدى مسئول كُردي قام بإغتصابها. ولكي يخفي جريمته، إرتكب جريمة أخرى فدبّر لها مكيدة وقتلها!
المسؤول لم يُعاقب بل رفعت مرتبته أكثر. واللافت أن هكذا تجاوزات تنتشر في أوساط المسئولين بكثرة!
وإحدى المشاكل الكبيرة التي توّلد هكذا جرائم، هي نوعية تفكير المسؤول الكُردي.
فهذا الكائن الفاوستي، لا يرى الحياة إلا ثقباً يُدخل فيه عصا شهوته!
وهو إذ يحسب عمره بالمقادير العامّة، ويشعر بالحد العكسي لأفول سنوات عيشه، يتحول بفورة جنونية إلى متسابق متوحش، يفعل كلّ شئ لبلوغ الغاية، قبل فوات الآوان، كما يفكر هو. لذلك يصبح الجنس والقتل (كإنتقام من الآخر في وجه ما) ذروة الشهوة التي تسكّن بركان ذنوبهم، وشعورهم بالنقص، والإختلاف مع الآخرين!!

السجناء الذين يُطلق سراحهم يؤخذ منهم العهد والوعد بالكتمان، وعدم التفوه بكلمة حول التعذيب وما إلى ذلك وإلا سيعيدونهم إلى سابق عهدهم، بل ويُهددون بالقتل.
وتسألون لِمَ لا يقوم الشعب الكُردي ضد هؤلاء الطغاة المجرمين؟!
وإن منكم من يسأل ما السرّ في نشر هذا كلّه؟!
أقول بإختصار شديد أنني سمعت بنفسي من بعض هؤلاء الضحايا، وإلتقيت بهم. وهذه صرخة الضمير والشرف لا أستطيع كتمانها لأي سبب كان، ومهما امتعض منها هذا أو ذاك!
ومن لا يصدق هذه الحوادث فأحيله إلى منظمة هيومان رايتس ووتش، وتقرير وزارة خارجية أميركا، وتقارير منظمات حقوق الإنسان الأوروبية!

وأطالب الجميع مساندة ودعم منظمة الدستور والقانون لكُردستان التي تشرفتُ بتأسيسها، للدفاع عن المظلومين، وللوصول إلى هدف تشكيل محاكمة دولية لمجرمي الحرب في كُردستان، ومختلسي أموال الشعب، والمُعذبين للأبرياء.
كن معنا لكي نسعد بالعدالة. فكلنا بشر وكلّ منا له الحق في حياة كريمة وآمنة. ولا فضل لأي منا على الأخر إلا بالصلاح والخُلق الكريم الرحيم.

علي سيريني

[email protected]