لم يتعامل مترجما هاملت: جبرا والقطّ، مع مسرحية هاملت، كتأليف سيمفوني يُحرّم فيه فصل آلاته عن بعضها دون إنزال النشاز بها، ولا كلوحةِ رسمٍ متداخلة الألوان، متناغمة. جاءت ترجمتهما كلمات مثقلة بقاموسيتها، وجملاً منقطعة عمّا قبلها وعمّا بعدها، فأصبحت مِثْل أشجار صغيرة مثمرة في أصص، ثمارها لا تصلح للأكل.
ربما لهذا السبب، لم يلتفتا إلى أهمية تكرار الكلمات والصور. نسمع الكلمة ( وهي في الغالب مصطلح)، على لسان أحد الأبطال، في مشهدٍ ما. تعود الكلمة نفسها، ولكنْ بلبوس مختلف،على لسان البطل نفسه، أو لسان بطل آخر، في مشهدٍ ثانٍ وثالث ورابع. هذه الطريقة التي ينفرد بها شيكسبير في التأليف المسرحي، تجعل النَّص متواشجاً عضوياً، وينموا نموّا استبطانياً، بالضبط كالتأليف السيمفوني، وكلوح الرسم.
يقول سدني بولت Sydney Bolt في معرض تحليله الفطِن لرثاء أوفيليا: ليس من المستغرب أن لا تُفهم حادثة ما في مسرحيّة بمعزل عن بقيّة الحبكة. ولكنْ ما هو مستغرب، أنّ تلك الحادثة ينبغي لها أن تُرْبط ببقية المسرحية بواسطة صلات لا علاقةَ لها بالسبب والنتيجة ولكنّها (أي الصلات) متحدة مع جوانب عرضية لإنتاج إيقاعٍ رنينيّ كامل" (Hamlet A Critical Study ).
حرصاً على توضيح الفكرة لا بدّ من إعطاء بعض الأمثلة. أسرّت أوفيليا أباها بولونيوس:

"بينما كنتُ أخيط في غرفتي الخاصّة
دخل اللورد هاملت وأزرارُ سترته مفتوحةٌ كلُّها
ما من قُبّعةٍ على رأسه، وجورباه ملطخان
فالتان فتهدّلا إلى رسغيْ قدميه كأنّهما حلقتا قيد
كان شاحباً بلون قميصه، وركبتاه تصفق بعضهما بعضاً
ومع نظرة تثير الرثاء في تعبيرها، كأنّما فلت من الجحيم
ليتحدّث عن
الفظائع"

Oph. My Lord, as I was sewing in my closet,
Lord Hamet, with his doublet all unbrac’d,
No hat upon his head, his stockings foul’d,
Ungarter’d and down-gyved to his ankle,
Pale as his shirt, his knees knocking each other,
And with a look so piteous in purport
As if he had been loosed out of hell
To speak of horrors”

وحتّى تكتمل الصورة، لا بدّ من التنويه أنّ أوفيليا قبل أن تروي هذا المشهد لأبيها، قالت له:
"آ، ياسيّدي اللورد، ياسيّدي اللورد
إنني منفزعة تماماً،

يدلّ تكرار: "يا سيّدي اللورد" مرّتيْن، على انقطاع نفَس أوفيليا، و على تشتّت أفكارها، فلا تدري من أين تبدأ. أرادتْ إصغاءه التام. يدلّ التكرار هنا أيضاً على حدّة استغاثة أوفيليا بأبيها، مما يشير إلى عِظَم ثقتها به.إذنْ بهذا الانهلاع والاستغراب واللاّ تصديق، كانت تروي أوفيليا المشهد أعلاه. ولأن أوفيليا ببراءتها وربّما سذاجتها اتخذت لنفسها دور الراوية، لذا يأخذ المشهد قيمة استثنائية، ذلك لأن المشاهد في هذه الحالة، إنّما يشهد الحدث وكأنه يقع أمام عينيه في التوّ، فيزداد فضوله من لحظة إلى أخرى.
يبدأ المشهد هكذا "بينما كنتُ أخيط في غرفتي الخاصّة"
"الغرفة الخاصّة"، حيلة فنّية بارعة الدقّة وظّفها شيكسبير لعزل أوفيليا عن كلّ شئ آخر، حتى تتركز عليها الأنظار كلّية. ولأنها غرفة خاصّة، فإنّ دخول هاملت عليها بدون موعد سابق وبدون استئذان شئ يبعث على الريبة.

لنقرأْ المشهد ثانية كصورة أدبية.
كانت أوفيليا تخيط. وسواء كانت خياطتها قتلاً للوقت أم مللاً، أم جدّاً، فإنّ حاسّة بصرها مركزة في غرزات الإبرة. حاسّة البصر في هذا المشهد والمشهد الذي يليه، تبلغ أو تكاد تبلغ أعلى درجات الحيرة والخبال. ما من حاسّة سواها. لها مفعول صورة مرسومة بلون واحد. حتّى لتبدو كثافته متأزمة متصلبة.أوّل شئ تخبرنا به حاسة بصر أوفيليا أنّ أزرار سترة هاملت مفتوحة كلّها. لماذا كلّها؟ ( هل تناول سترته على عجل؟) تنتقل حاسّة البصر من الأزرار إلى الرأس. كان رأس هاملت بلا قبّعة. (عجلة أخرى، لأنّ القبّعة كانت تُلْبس حتى داخل البيوت في العصر الإلزابيثي.)
الغريب تنتقل حاسّة البصر فجأة من الرأس إلى الجوربيْن المتهدليْن. ولكن لماذا كانا ملطخيْن وهو الأمير؟ نجد الجواب في:"حلقتا قيد".هل كان شيكسبير يفكّر بقيد ودم؟وما علاقة الدم بالشحوب، حيث انتقلت حاسّة البصر من الجوربيْن مرّة واحدة ، وبلا تسلسل الى الوجه الذي "كان شاحباّ بلون قميصه". تنتقل حاسة البصر مرّة أخرى من شحوب الوجه إلى الركبتيْن وهما تصطفقان، ومن هذا الاصطفاق، انتقالة أخرى إلى أعلى، إلى عينيْ هاملت. إلى النظرة فيهما. كانت تلك النظرة تثير الرثاء، وكأنّ فيها أهوالاً، كأنّ فيها رعبَ مخلوقٍ هاربٍ من أهوال. تقاس ضخامة الأهوال هنا بما طرأ على أوفيليا من حزن حنون. لا ريب كانت أوفيليا في بداية الحديث مع والدها ،منفزعة تماماً"، من هاملت، أما الآن فهي مشفقة عليه.
قبل الاستطراد أكثر، ينبغي ألاّ يفوتنا أنّه لم تُنْطَقْ في هذا المشهد كلمة واحدة. الصمت في هذا المشهد كالجرح العميق الحادّ. لا أثر له بادئ الأمر. لا يُؤذي بادئ الأمر. ثمّ ينْزف قطرات كبيرة. كان الصمت بين هاملت وأوفيليا كالجرح العميق الحاد. نازفاً وغامضاً. أعمق نزف وأصعب غموض. على أية حال فما دمنا قد ذكرنا النْزف فقد وردتْ في المشهد أعلاه صورتان مهمّتان. تمثّلتْ الأولى بكلمة:"شاحباً"، والثانية بكلمة:"الجحيم".
إنهما صدى وصوت في الوقت نفسه. أخذا بعديْن إضافييّن لأنهما ارتبطا من قبلُ، بشحوب الأشباح، وجحيم الأموات.
تعرّف المشاهد (أو القارئ) على ذلك الشحوب أوّلاً حينما كان يصف هوراشيو لهاملت منظر شبح والده الملك الذي رآه:

هاملت: كيف بدا الشبح، عابساً؟
هوراشيو: في وجهه أسى أكثر منه غضباً
هاملت : شاحباً أمْ محتقناً؟
هوراشيو :لا بلْ كان شاحباً جدّاً"

تعرّف القارئ على الجحيم من قبل، وكان جحيماً كبريتياً غريباً، من الحوار الذي دار بين شبح الملك وبين هاملت:

"أنا شبح والدك. كُتِب عليّ الطواف طيلة الليل
لزمنٍ معلوم، أمّا في النهار
فمقيّد بلا قوت وأنا وسط النيران
محظورٌ عليّ أن أخبرك
عن أسرار سجني، وإلاّ لرويتُ لكَ قصصاً
وأبسط كلمة فيها تُمزّق الروح شرّ ممزّق
وتُجمّد دمَكَ الفتيّ
وتجعل عينيك تطفران من محجريهما كنجميْن من مدارهما
وتفرق لها خصلات شعركَ المعقودة
وتقف كلّ شعرة على طرفها
مثل حسائك قنفذ خائف
لكنّ أسرار ما بعد الحياة ليستْ
لآذان من لحم ودم…"

رأينا سابقاً كيف وصفت أوفيليا هاملت في نهاية المشهد:"وكأنما فلت من الجحيم ليتحدث عن الفظائع"، ألا نقرأ فيها صدى لانفلات شبح الملك من الجحيم ليلاً؟
الشبح لم يتكلمْ عن أهوال الجحيم لأنّ ذلك محظور عليه ولكن ما الذي منع هاملت من الكلام؟ بهذه الحيلة الصامتة ركّز شيكسبير بحذق حواسّ المشاهدين بحاسة واحدة هي حاسّة البصر. بكلمات أخرى أصبحت حاسة البصر أكبر بخمسة أضعاف لأنها جمعت أو أنابت عن كلّ الحواس.على أية حال، أكملتْ أوفيليا سرد بقية المشهد لأبيها ببرود جرح حادّ قبل النّزف:

"أخذني من معصمي وشدّ عليه بقوّة
ثمّ رجع بمسافة ذراع
واضعاً يده هكذا فوق جبينه
ودقّق في وجهي بإمعان
كأنما يريد أن يرسمه. بقي هكذا مدّة طويلة
أخيراً هزّ ذراعي هزّاً خفيفاً
وثلاث مرّات حرّك رأسه إلى الأعلى وإلى الأسفل
وتنهّد تنهيدة مبكية من أعماق كيانه
كأنما بدت تُكسّر كلَّ هيكله
وتُنْهي كينونته. بعد ذلك تركني
وأدار رأسه على كتِفيْه
فبدا كأنْ يجد طريقه بلا عينيه
لأنّه خرج من الأبواب دون أن يستعين بهما
وحتّى النهاية كانتا توجهان شعاعهما إليّ":

He took me by the wrist and held me hard.
Then goes he to the length of all his arm,
And with his other hand thus o’er his brow
He falls to such perusal of my face
As a would draw it. Long stay’d he so.
At last, a little shaking of mine arm,
And thrice his head thus waving up and down,
He rais’d a sigh so piteous and profound
As it did seem to shatter all his bulk
And end his being. That done, he lets me go,
And with his head over his shoulder turn’d
He seem’d to find his way without his eyes,
For out o’doors he went without their helps,
And to the last bended their light on me


حينما نقرأ:" أخذني من معصمي/ وشدّ عليه بقوّة"، ندرك على الفور أنّ المفاجأة أفقدت أوفيليا الإرادة. ما من مقاومة من أيّ نوع. راح هاملت يقوم بحركات أشبه ما تكون بحركات رسّم أو هذا ما ظنّته أوفيليا:"يده على جبينه/يدقّق بإمعان في وجهها/…بقي هكذا فترة طويلة.. تصوّرتْ أوفيليا أن هاملت أراد أن يرسم وجهها، إلاّ أن حركات هاملت تُوحي بأكثر من مجرّد الرسم، وإنْ اشترك معه في محاولة لتخليد الملامح. هل مرّ ببال هاملت هاجس غيبي غامض فشعر باللاوعي بأنّ أوفيليا على وشك الموت أو شعر بأنّه سيفقدها إلى الأبد لسببٍ ما؟ فجاء إليها مدفوعاً بهاجس غامض كما يبدو لا بأيّ شبق من أيّ نوع وإلاّ لطارحها أو أغراها بكلمات ممغنِطة أو بلمسة حبّ لها مفعول البنج في عموم الجسد.أكثر من ذلك ألا تدلّ حركة الرأس البطيئة ثلاث مرّات إلى أعلى وإلى اسفل على طقوس، لا سيّما وإنّ للرقم ثلاثة دلالة خاصة لدى شيكسبير؟
إذنْ هل تعني:"أخذني من معصمي وشدّ عليه بقوّة" الخوف عليها من يأخذها أحد ما دامت لا تعني غزلاً؟من ناحية أخرى فتوقيت:"فتنهّد تنهيدة من أعماق كيانه" مهم للغاية، لأنّ شيكسبير بهذه الوسيلة اللمّاحة أنهى الطقوس نهاية طبيعية. ولكن لماذا تنهّد تلك التنهيدة التي ضعضعت هيكله؟ ولماذا تركها في تلك اللحظة؟ هل كانت هذه التنهيدة هي كل ما أراد أن يقوله لاوفيليا؟
هكذا ترك هاملت أوفيليا، وخرج من الأبواب دون الاستعانة بعينيه لأنهما كانتا توجهان شعاعهما إليها. لم يكنْ هذا الوداع وداعاً طبيعياً، وهو أشبه ما يكون بتوديع ميّت حيث تتركز الحواسّ الخمس عادة بحاسة البصر التي تضاعفت حدّتها خمسة أضعاف، لتختزن، لتتشرّب لتنقش ملامح الوجه ملمحاً ملمحاً قبل أن يختفي نهائياً.

لندن27-9-2005
[email protected]

كاتب المقال في اسبانيا

ممنوع إعادة نشر هذا المقال من دون إذن من ادارة إيلاف