تعلّق الباحثة الفرنسية في الانثربولوجيا دنيا بوزار في لقاء خاص مع (إيلاف) على بعض برقيات السفارة الأمريكية بباريس التي سرّبها موقع ويكليكس وتضمنت مآخذ على سياسة فرنسا تجاه المسلمين وعدم قدرتها على إدماجهم بما يفسح المجال أمام المتطرفين لاستقطابهم.


الباحثة الفرنسية في الانثربولوجيا دنيا بوزار
تصوير: د ايرولز

باريس: يبرُز اسم دنيا بوزار على الساحة الفرنسية كلّما احتدّ النقاش حول قضايا الإسلام و الهجرة و التطرف.

وبوزار هي باحثة في الأنثروبولوجيا من أصول تونسية تُعرف لدى الرأي العام الفرنسي بجهودها في تصحيح العديد من المفاهيم حول المسلمين في فرنسا، ولها مجموعة من المؤلفات بهذا الشأن أبرزها quot;فرنسية ومسلمةquot; الصادر في العام 2002، كما أصدرت العام الجاري كتاب quot;العلمانية، طريقة العمل- إطار قانوني و حلول تطبيقيةquot;.

لا تختلف دنيا بوزار كثيرا في نظرتها لإشكالية إدماج الأقليات الفرنسية المنحدرة من الهجرة عن ما ورد في تسريبات موقع ويكليكس التي أكدت أن فرنسا تُقصي مسلميها، وتؤمن بأن الاعتراف بتاريخ الشباب الذي ينتمي إلى هذه الشريحة في فرنسا وضمان شروط أساسية لممارسة حريته في التدين، كفيل بالوصول إلى صيغة معينة لإدماجه في المجتمع و قطع الطريق على المتطرفين للاستفراد به.

و في ما يلي نص الحوار:

أثارت وثيقة نشرها يكيليكس، تخص انطباع الدبلوماسية الأمريكية في باريس حول أعمال الشغب التي عرفتها الضواحي عام 2005، ما أسمته quot;التخوفات من توالي هذه الأزمات بفرنسا نتيجة تمييزها ضد المسلمين ما يؤدي إلى إضعاف هذا البلد كحليف مهم بالنسبة لهاquot;، ما رأيك في هذه البرقية؟

بدءا بالمدرسة يتلقى الشباب أن الجمهورية تضمن quot;المؤاخاة والمساواةquot;، ويعامل جميع مواطنيها بنفس الطريقة.

والتمييز عنيف بالقدر الذي اعتقدوا يوما في المساواة، التفاوت بين النظري والممارسة اليومية شيء لا يطاق.

ولم يتمّ الاعتراف بالتمييز إلا حديثا خصوصا في الخطاب السياسي. فقد كان الجميع يقلل من شأن الظاهرة أو ينفيها بالمرة.

والأسوأ أن من تعرّضوا للتمييز كانوا يعتبرون مسؤولين عن ذلك.

وفي الوقت الحالي الحديث عن التمييز ضد الأصل أو لون البشرة يبقى أمرا صعبا للغاية، لأن الخطابات التي طالبت بتجسيد للمبادئ الكونية على الواقع، تستمر في الانسحاب لتتحول إلى مجرد مبادئ.

مع مرور الوقت، وأمام هذا التفاوت بين ما هو تنظيري وما هو تطبيقي، الدولة الفرنسيّة بدأت تفقد مصداقيتها لدى الشباب وكل ما ينتسب لها من مؤسسات، بل فقدوا هذه الثقة حتى في من يتقدموهم في السن.

عندما تحصل أعمال شغب نربط ذلك بسبب quot;عدم اندماج الشباب في المجتمع الفرنسيquot;، لكن في حقيقة الأمر ليس هناك أي علاقة لما يحدث مع ما هو ثقافي، لأنه بالطبع هؤلاء الشباب يثقون في شعار الجمهورية.

في برقية لها، ذكرت السفارة الأمريكية في باريس أن فرنسا فشلت في دمج السود والمسلمين هل هي معاينة لواقع معيش أم طريقة يقدم فيها الأمريكيون أنفسهم كمُقدمي دروس للآخرين؟

يمكن أن أقول الاثنين، المجتمع الفرنسي يقدم نظام الاندماج فيه على أنه خالي من أي نقص، والمشكل الوحيد أنه لا يطبقه.

فعندما يتعلق بالمسلمين أو السود الذين يتقاسمون البلد كونهم ينحدرون من المستعمرات الفرنسية السابقة، تعطى عنهم تمثلات سلبية على حساب تطبيق المبادئ و القانون.

هناك تشغيل بسرعتين ،سياسة بسرعتين إلى آخره...

أفادت وثيقة من ويكليكس أن سفارة الولايات المتحدة الأمريكية في باريس أحدثت لجنة لمتابعة أحداث أعمال الشغب التي عرفتها الأحياء الشعبية سنة 2005.لماذا كل هذا الاهتمام من طرف الأمريكيين بالأحياء الشعبية الفرنسية برأيك؟

يصعب علي الرد على هذا السؤال، عليك أن تطرحه على المعنيين بالأمر.

الدبلوماسية الأمريكية في باريس، دائما حسب نفس الوثائق،أخبرت مسؤوليها بواشنطن أن quot;المؤسسات الفرنسية تنقصها المرونة حتى تتماشى مع مكوناتها الديموغرافية التي هي بصدد التنوع مع مرور السنواتquot;.هل هو فعلا واقع الحال في هذه المؤسسات؟

كشفت برقيات دبلوماسية أمريكية مُسرّبة نشرها quot;ويكيليسquot; أنّ الحكومة الفرنسية تعمل على إقصاء المواطنين المسلمين, مؤكدة في الوقت ذاته على أنّ الإسلام آخذ في الانتشار في مختلف الفئات الاجتماعية بفرنسا، بما فيها سلك ضباط الجيش.

واعتبرت الوثائق, التي نقلتها صحيفة quot;لوموندquot; الفرنسية عن موقع ويكيليس, أنّ هذه التصرفات قد تضعف فرنسا وتحولها إلى quot;حليف أقل نجاعةًquot; للولايات المتحدة.

وحذّر سفير الولايات المتحدة السابق لدى باريس كريغ ستابليتون في برقية أرسلها إلى الخارجية الأمريكية في يناير 2005 من آثار إقصاء مسلمي فرنسا البالغ عددهم نحو ستة ملايين نسمة، مشيرًا إلى أنّ السلطات الفرنسية لم تفلح في إدماج هذه الشريحة من مواطني البلاد الذين يُقِيم أكثرهم في quot;الضواحي الفقيرة الموجودة خارج المدن الفرنسية الكبرىquot;.

وأورد ستابليتون في البرقية نفسها معلومات استمدَّها من تقارير للمخابرات العامة الفرنسية تُفِيد بأن الإسلام آخِذ في الانتشار بين مختلف فئات المجتمع الفرنسي بما فيها الجيش، لافتًا إلى أنّ quot;3.5% من عسكريين فرنسيين بمن فيهم ضباط، اعتنقوا الإسلامquot; مؤخرًا.

وفي برقيةٍ أخرى أرسلها إلى واشنطن في أغسطس من السنة ذاتها، أعاد السفير الأمريكي السابق التشديد على أنّ quot;المشكلةquot; لا يمكن اختزالها في إدماج المهاجرين، وإنّما quot;يتعيّن أيضًا على فرنسا أن تعمل من أجل إعطاء مكان للمسلمين في الهوية الفرنسيةquot;.

وحينما انفجرت أحداث الضواحي الفرنسية نهاية أكتوبر 2005 انبرى الدبلوماسي الأمريكي لدَحْض رواية بعض وسائل الإعلام في بلاده، والتي صورت إشعال شبان مسلمين لمئات السيارات في أطراف المدن الفرنسية الكبرى على أنه تَمّ بتحريضٍ من quot;جماعات إسلامية متطرفةquot;.

وأكّد كريغ أنّ الشبان الغاضبين لم تكن تحركهم أي أفكار أيدولوجية، وإنّما كانوا محبطين من واقع الإقصاء والتهميش السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي يعانون منه.

وفي السياق, اعتبر السفير الأمريكي الحالِي بباريس تشارلز ريفكين في برقية أرسلها إلى خارجية بلاده في يناير الماضي، أنّ quot;المؤسسات الفرنسية لم تظهر المرونة الكافية من أجل التأقلم مع الواقع السكاني الذي يزداد تنوعًاquot;.

وحذّر من أنه إذا لم تنجح فرنسا- على الأمد الطويل- في تحسين آفاق أقلياتها ومنحها تمثيلاً سياسيًا حقيقيًا، فإنّ البلاد قد quot;تصبح أكثر ضعفًا وأشد انقسامًا وتعرضًا للأزمات وأكثر ميلاً للانطواء على الذات، وبالتالي تغدو حليفًا أقل نجاعةquot; للولايات المتحدة.

لا أعتقد أن الأمر يتعلق بالمرونة وإنما بنموذج نأبى الاعتراف به.

كونية المبادئ الفرنسية تعتبر ndash; نظريا- جميع الفرنسيين سواسية، لكن الإمبراطورية الفرنسية في عهد توسعها احتوت أجناس وأعراق أخرى، كان يشار إليها بالمجموعة غير البيضاء، وغير متحضرة كما جردت من المواطنة.

والدمقرطة أخدت اتجاهين: سياسي و عرقي.

أن تكون فرنسيّا في مرحلة سابقة كان عليك أن تكون أبيضا، فبناء الأمة الفرنسية لم يكن فقط على قواعد سياسية وإنما كان كذلك على أسس عرقية.

وبقدر ما يكون هذا النوع من الذاكرة من الطابوهات بقدر ما ينعكس ذلك على سلوك كل واحد بطريقة عنيفة، لأنها كما أسرار الأسرة، إن كنا نتحدث عنها بقلة فهي تكون مؤلمة وعميقة.

تذهب هذه الوثائق إلى أمر خطير عندما تتحدث عن أنّ quot;عدم عمل باريس على إدماج الأقليات في الدوائر السياسية سيؤدي إلى إضعاف فرنساquot;.ما تعليقك على ذلك؟

غياب منتخبين quot;ملونينquot; يجسد تماما ما قلته في سؤالك: صعوبة تخيل أن رجلا أسود يمكن له أن يمثل الشعب الفرنسي...في فرنسا لا يزال الشخص الأسود أو المسلم يمثل الأجنبي.

التنوع مسألة مقبولة لكن ليس تعدد الفرنسيين، بعبارة أخرى لا يتصور أن شخص عندما يعتقد في ديانة مختلفة أو له لونا كما هو متعارف عليه، أن يكون ولد بفرنسا و له ثقافة فرنسية و غيرها، ينظر إليه على أنه قدم من عالم آخر وهو لا محالة مختلف.

تتهم هذه الوثائق باريس quot;بعدم استغلالها لأفكار وطاقة أقلياتهاquot;.إلي أي حد يصح هذا الطرح؟

يجب في البداية الاعتراف بدور أجداد هؤلاء الشباب في تاريخ فرنسا.

الحديث عن مشاركتهم في الدفاع عن فرنسا خلال الحرب العالمية لا يعني أنه يرتبط بمبدأ العدالة، الأمر يتعلق بسؤال عميق لذاكرة رمزية.
يذكر الفرنسيون أن الأقليات ليست بمجموعة quot;أجانبquot;...أجيال تنشأ في عالم مثقوب الذاكرة.لا يعرفون أي شيء عن أبائهم باستثناء ما يشاهدونه في التلفزة.

إذا لم تنجح فرنسا في وضع quot;حصيلة جماعيةquot; تعطي لكل واحد مكانه في ماضيها، فنحن بعيدين كل البعد عن إمكانية اعتبار هؤلاء quot;الفرنسيين الجددquot; مواضيع حقيقية للتاريخ المقبل.

يثار باستمرار موضوع إدماج المسلمين في المجتمع الفرنسي إلا أن برقية من ضمن هذه الوثائق تفيد أن المسلمين بفرنسا هم الأكثر اندماجا في المجتمع مقارنة مع باقي المجموعات المسلمة في دول أول أوروبية أخرى. ما تعليقك؟

كما قلت سابقا، المسلمون بفرنسا مندمجون في المجتمع الفرنسي بشكل كلي، ويدافعون عن مكانتهم الكاملة فيه.

لكن هذا لا يعني أنهم مدعوون لترك إسلامهم خارج الحدود، يريدون أن يكونوا فرنسيين وفي نفس الوقت مسلمين.

وقانون العلمانية لـ 1905 واضح، يضمن حرية الاعتقاد لكل المواطنين. لكن عندما يتعلق الأمر بالإسلام التمثلات السلبية تفرض ذاتها.

وحرية التعبد لا تحترم رغم أنها من القوانين الأساسية على الورق.

الرؤية الإسلامية لبعض الشباب تفهم كأنها رفض للاندماج، إلا أنه في حقيقة الأمر عكس ذلك.

هذا الجيل الأول من المسلمين الذي ولد بفرنسا ينظم نفسه لممارسة شعائره الدينية بكرامة، ليس على اعتبار أنهم مجرد عابرين من هنا، بل يعتبرون أنفسهم في بيوتهم و ليسوا بحاجة إلى أن يخفوا ذلك كما كان شأن آبائهم.

هم لايطالبون بحق ممارسة عقيدتهم باسم الحق في الاختلاف، وإنما باسم تطبيق قوانين الجمهورية لبلدهم فرنسا.

هل بإمكان التمييز أن يؤدي إلى التطرف حسب ما تعتقده هذه الوثائق؟

بالتأكيد، الخطاب المتطرف يلتقط هؤلاء الضحايا ويوهمهم بالانخراط في نسب مقدس، لأنهم يشعرون أنه ينحدرون من اللاشيء، و يلمّعون لهم فكرة أنهم همشوا فقط لأن الله وضعهم في مرتبة عليا، يملكون الحقيقة، اختيروا لأجل أنقاد العالم.

من لاشيء يصبحون كقوى كبيرة quot;آلهة صغيرةquot;، والدليل على ذلك أن هذا الخطاب يغري كذلك الأوروبيين من أقرانهم.

إشكال التطرف هو إشكال اجتماعي سواء في مسبباته أو مخلفاته، لأن عملية شحن هؤلاء تتوخى التحكم فيهم لأجل الانغلاق على الذات واعتزال المجتمع، في وقت يعني فيه الدين العكس، أي ربط الاتصال بالآخرين.

ويتعلق الأمر هنا بجر الشباب إلى قطيعة أسرية مجتمعية اجتماعية و مهنية، و بالتالي يصبح غير مندمج، وفي النهاية يصرح السياسيون أن quot;الشباب المسلم غير مندمجquot;.