عثمان العمير ناشر ايلاف خلال تكريمه
اكتست اثنينية عبد المقصود خوجه ليل الإثنين الماضي في مدينة جدّة حلة quot;متميّزةquot;، فصاحب الإثنينية الذي يكرّم مساء كلّ يوم إثنين روادًا في العلم والفكر والثقافة والإعلام وسواها من المجالات، احتفى أول أمس بضيفه الإعلامي ناشر quot;إيلافquot; ورئيس تحريرها عثمان العمير.
ووصف خوجة الأمسية بأنَّها quot;نوعيَّةquot; تدخل في رحاب عالم الفكر والصحافة وما يتّصل به من سجالات وتساؤلات يثيرها الضيف الذي أحدث نقلة في الصحافة السعودية والعربية، ليس على مستواها الورقي بل في مجالها الرقمي أيضًا، واستعاد عبارة العمير quot;أن الموت يأخذ مني كل غال وعزيز، وعلى العلم أن يجد حلاًّ للموتquot;، مؤكدًا أن هذه الجملة أثارت الكثير. كما أبرز مقولة العمير quot;إن الصحافة الإلكترونية سوف تقضي على الرقابةquot;.
أمَّا العمير، الذي حطّ في أرض الوطن ليكرّم داخل بلاده، بادر بالقول إنَّه quot;يصعب على الفرد أن يتلقى اعترافًا من أفاضل دون الشعور بالمعنى الأصيل النابع من تلك النفوس التي جادت بذلكquot; ولفت إلى أنَّ quot;الحديث عن النفس غير محمود، وأذى يجب إماطته عن الطريقquot;، واستلهم من مقولة عبد الملك الزيَّات، المثقف والدكتاتور والوزير، إنَّ العدل خور في الطبيعة ليطوّع العبارة الى أنَّ quot;الحديث عن النفس خور في الطبيعةquot;.
وطالب العمير رواد الاثنينية بالتركيز على الحديث عمّا يمكن تقديمه في المستقبل لمهنة الصحافة quot;التي أمضيت فيها ما يقارب من نصف قرن فلم احسب نفسي دائمًا وأبدًا إلا خادمًا مطيعًا لهذه المهنة، ومخلصًا لهاquot;، وعبّر بالقول quot;إنني فرحت قبل 30 عامًا، حين قابلت في مدينة جدة المفكر والشاعر الكبير محمد حسن عواد، ولكنني اليوم أطير فرحًا لأنني قابلتكمquot;.
وبيّن العمير أن أهم أسباب نجاح القيادات الصحافية هي (الروح الإنسانية) لافتًا في ردّ على سؤال quot;كلمة تألق كبيرة عليquot;، ولا بد أن تكون العلاقات الطيبة مع الآخرين في العمل هي المظلة التي يستظل بظلالها كل العاملين ليبنوا مؤسسة صحافية ناجحة. كما عزا تميز ونجاح صحيفة (الشرق الأوسط) التي قضى فيها11 عامًا إلى الإدارة الجيدة والناشرين الأخوين هشام ومحمد حافظ اللذين اعتبرهما مجددين في صحافة منطقة الشرق الأوسط.
العمير يرد على اسئلة الصحافيين
شهادات
quot;الإثنينيَّة هذه المرّة مميزةquot; يقول عبد المقصود خوجه، quot;لذلك سنضاعف زمن الاحتفاء نصف ساعة للمرة الأولىquot;. ويتطرق خوجه إلى تجربة العمير ساردًا قصص نجاحه وما قدمه من ثورة إعلامية متجددة ومتطورة، وخصوصًا قصة quot;إيلافquot; التي وصفها بالقصة الناجحة، بحضور حشد من المثقفين والأدباء والإعلاميين السعوديين والأصدقاء وبينهم المدير العام للتحرير في صحيفة الحياة بالسعودية والخليج جميل الذيابي والدكتور عبدالله مناع والإعلامي عبدالله القبيع ووهيب غراب وإعلاميين من النساء والرجال.
لم تكن شهادة المدير العام لجريدة الحياة اللندنية في السعودية والخليج جميل الذيابي بعيدة ممّا ذكره صاحب الأمسية عندما قال عن العمير: quot;الكلمات تتساقط في ليلة تكريمه، لكن الأمسية في نفسي مختلفة، لكونها تكريمًا لعثمان الإنسان الذي نتفق حوله ونختلف حولهquot;، مضيفًا: quot;هذا الرجل شخصيات متعددة في شخصية واحدة... لا يمكن إلا أن يكون مفكّرًا جادًّا وساخرًا وصحافيًا ورجل أعمال ناجحًا، لكن الهمّ المشترك هو الصحافة، وهذه حقيقة عثمان إلى اليوم، وما أكثر الهموم بداخله لمن يعرفه عن قربquot;.
عن تجربة العمير، قال الذيابي quot;بدأها من لندن وشكل في نصف ساعة صحيفة إيلاف الالكترونية، وأصبحت في اليوم التالي حقيقة على الانترنت، وهو لا يخشى لومة لائم في أي مادة تستحق النشر وتحقق السبق الصحافي والمهنية العالية، ولن أذيع سرًّا إن قلت أن انتقالي لصحيفة الحياة كان من منزل عثمان في لندنquot;، مؤكدًا ارتباط العمير بالمكان quot;إذ إن ارتباطه بالمكان وتاريخه لا ينفك عنه، فهو في يوم ما دعا أصدقاءه في لندن إلى موقع عاش فيه فولتيرquot;.
من جهته، أشاد الدكتور عبدالله مناع بدور العمير في النهوض بالصحافة الالكترونية وإخراجها من الافتراض إلى الواقع، في ما أكد الإعلامي عبدالله القبيع أن quot;أسرع طلاق للصحافة الورقية كان من عثمان العميرquot;، مضيفًا ان لا احد quot;ينكر وجود روح العمير في نفوس الصحافيين، الذين زاملوه وتتلمذوا على يديه. فهو مجموعة صحافيين في شخص واحد، لكنه مع الأسف كان ضحية للمؤامراتquot;. أمَّا وهيب محمد غراب الذي أشاد بـquot;الأخلاق التي يتحلى بها عثمان وقدرته العجيبة على التواصل مع الآخرين، اتّفق مع القبيع على اعتبار ما يميّز العمير quot;انه دائمًا ما يدافع عن الصحافيين ويساندهمquot;، مؤكدًا أنه رجل quot;لا يُشعِر أحدًا بالفوقية ولا بفارق الدرجة الوظيفيةquot;، مستشهدًا بأحداث وقعت له شخصيًّا معه.
مداخلات
تطرّق الحضور في مداخلاتهم إلى تجربة العمير الإعلاميَّة ونظرته إلى مستقبل الصحافة الإلكترونية وناقشوا إيلاف كمشروع كان وليد quot;إلهامquot;، والاتّهامات التي تساق ضدّه، والجدل الذي يثيره في الوسط الإعلامي.
الصحافة الإلكترونيَّة... الغرب نموذجًا
إعتبر العمير نفسه أول المنشقين عن الصحافة الورقية، وقال في هذا الشأن: quot;عندما نتحدث عن الصحافة الورقية فنحن اليوم نتحدث عن أموات، فهناك اليوم العديد من الصحف الورقية التي تغلق أبوابها وتتقلص. فالصحافة الإلكترونية في هذا العام بالذات في مجال الإعلان أصحبت تنافس التلفزيون في أوروبا وأميركا، وهذا دليل على التقدم الكبير التي وصلت إليهاquot;، مضيفًا quot;في عصر الثورة التقنيَّة، لقد تطوّرت المفاهيم المتعلقة بكيفية العمل الصحافي وتلقيه اليوم، فالناس لم تعد تبحث عن الأخبار في التلفزيون أو الصحف المطبوعة أو الإذاعة فقط، فالإعلام اليوم مشاع والأخبار في متناول الجميعquot;. واستطرد quot;الرهان اليوم في الصحافة، يتمثل في كيفية صناعة عمل صحافي مميز من ناحية المضمون والمتابعة والمصداقية. والصحافة الغربية المتطورة تحاول الوصول إليه. إنما في الوسط العربيndash; للأسف - نحتاج إلى وقت طويل ليصبح لدينا جيل صحافيّ يخرق الخبر ويغذيه جيّدًا ويجعل المتلقي يتابعه بتميّزquot;.
ثم تحدث العمير قائلاً إن الناس لم تعد تبحث عن الخبر في التلفاز أو الإذاعة فقط بل باتت موجودة الآن في كل مكان في عصر الثورة التقنية، التفكير الآن هو كيف تخرج صحافتنا ناجحة من خلال خلق جيل صحافي يخرق الخبر ويغذيه جيدًا ويجعل المتلقي يتابعه بتميز، هذا هو الرهان وهو ما تعمل الصحافة الغربية عليه لكن عندنا في الوسط العربي للأسف يحتاج إلى الكثير.
وفي ردّه على سؤال عن الانترنت وإن كانت تعتبر تكديسًا لحضارات الآخرين، وإن كان يراها ضمن المناهج الدراسية، قال العمير ممازحًا quot; quot;أعتقد أن (ابن سلول) لو كان اليوم يعيش في عصر الإنترنت لترك نفاقه!، فالإنترنت أصبح اليوم أمرًا محسومًا ولا يحتاج إلى إثبات ولكن يحتاج إلى إعطائها دفعة أقوى للاستفادة منه، كما أن علينا واجبًا كبيرًا يتناغم مع توجهات حكومتنا الرشيدة بقيادة الملك عبدالله في ما يتعلق بإحلال التكنولوجيا سواء في التعليم أو مختلف قطاعات الدولةquot;.
إيلاف... التطوّر على حقّ!
وعن بدايات مشروع تأسيس صفحة إيلاف الإلكترونية التي أنشأتها العام 2001، ومقولته الشهيرة quot;أنا لست شرطيًا أراقب كل ما ينشر في فيها، فإيلاف ولدت لتكونquot; أجاب العمير قائلاً quot;أولاً مشروعي لم يكن مخططًا له بطريقة متقنة، كان لحظات يستعر فيها الإنسان أن يقدم عملاً معينًا هي لحظات شبيهة بالإلهام، وإن كان في تلك اللحظة التي خرجت فيها من الشرق الأوسط قررت ألا أعود مرة ثانية للصحافة، وعلى طريقة الذين يريدون أن يتراجعوا عن قرارهم، قررت أن أبحث عن منحى جديد في مجال ثورة الإنترنت التي كانت في ذلك الحين، وبدأت الفكرة تتطور لديّ، وبدأت أتقمصها على الطريقة الصوفية، حتى أصبحت متمكنًّا فيها، ووجدت أنها هي المستقبلquot;.
أضاف quot;من هنا انطلقت فبدأ الحماس، على الرغم من أنَّها كانت مثار سخرية الكثير من الكتّاب وبعضهم من كبار المسؤولين، ولكن الذي قطعته خلال عشر سنوات يؤكد أن الإنترنت على حق، وليس عثمان على حق، التطور على حق، العالم على حق، التقدم على حق. وهكذا كانت إيلافquot;.
وقد مرّت إيلاف بعدد من الأمور quot;فكيف تقنع الآخرين، على أن النشر الإلكتروني ما هو عيب، لأنه كان نوعًا مخجلاًquot;، لافتًا إلى انّ شخصية الإنترنت بدأت الآن تتشكل، وأصبح هناك أمام الشك صدقية كثيرة لكثير من المواقع في الغربquot;، مؤكدًا أنَّ إيلاف موجودة وهذا الرهان الذي يجب أن تكون عليه الصحيفة، معتبرًا أنّ إيلاف خلقت لتكون مثل الإنسان ووجدت بهذا الإطار والشكل.
وعن الليبراليَّة وإن كانت إيلاف تميز بين الرجال والنساء وخصوصًا أنّ هناك زاوية باسم نساء إيلاف، رأى العمير أنَّ تعريف الليبرالية في السعودية يحتاج إلى إعادة جدولة على شاكلة الجدولة الاقتصادية، أما إيلاف فإنها لا تفرق بين الجنسين وفي ما يتعلق بنساء إيلاف فهي تسمية صحافية ومن أبواب إيلاف كما أشار إلى أن هناك عناصر نسائية كثيرة تعمل في إيلاف خصوصًا من خارج السعودية، وتظل التسمية لا تعني عنصرية وإنما أشبه بإشارة تشير إلى موقع ما، ولكنها بالتأكيد لا تعني ممنوع الدخول لغير النساء.
الشرّ الأبيض
وعن مقولته الشهيرة quot;إن الصحافي ما لم يتصف بالشر ليس صحافيًّاquot;، اوضح العمير quot;الشر المقصود هنا هو الشر الأبيض، وليس الأسود المقرون بالحقائق والاستكشاف والبحث عن الخبطات الصحافية، معتبرًا أنَّ الصحافي الذي يبتعد عن الشر الأبيض ليس صحافيًا، ومردفًا القول: quot;لا بد للصحافيين من الخروج من المكاتب المريحة والمكيفة والتوجه إلى الميدان، بل الاقتراب من النار ولكن دون الوقوع فيهاquot;.
أنا بوق... لمن يجيد النفخ فيه
وعن إشارة مقدم برامج إلى العمير بأنه بوق، وردّ العمير آنذاك بالقول quot;نعم، أتجيد النفخ؟quot;، قال العمير إنَّ كثيرين تعلموا في طرق الحوارات أسلوب الإجابة البديهية والسريعة. ولمن يصفونه ببوق للدولة يقول: quot;نعم، أنا بوق... ولكن لمن يجيد النفخ فيه، فما الغريب في أن أكون بوقًا لإنجازات بلدي منقطعة النظير على الأصعدة كافَّة ولأهلي الذين علموني كيف افخر بهم وكيف أكون بوقًا جيدًا... ولكني لست بوقًا لآخرين لا يجيدون النفخquot;.
تجربة شخصيَّة
وعلى الرغم من إجماع بعضهم على نجاح تجربة الجمع بين منصبي مدير التحرير مع المدير العام، تمنّى العمير أن تكون هناك إعادة النظر في المنصبين لأن رئيس التحرير مهامه كثيرة ويجب ألا يشغل تفكيره بأمور إدارية أخرى. وفي إجابة لإحدى المداخلات من الحضور عن مدى وجود فكرة لكتابة تجربته الشخصية وسيرته الذاتية، ردّ العمير ممازحًا: quot;ما زالت صغيرًا على كتابة تجربتي...، في الحقيقة الفكرة موجودة ودائمًا أفكر أن أفعلها ولكن تحتاج إلى وقت ومجهود وهدوء في النفس والسلوك والبحث، والأهم الآن توثيق ما يمكن أن نتحدث عنه، وأما الكتابة إن لم تنفذ الآن فبالإمكان أن يكتبها غيري يكون أكثر عمقًا وتحليلاًquot;.
ويؤكد العمير أنَّ السؤال عن المعايير الأخلاقيَّة للمجتمع وما إذا كانت تتصادم مع الصحافة ما زال يشغل بال الصحافيين، والأكاديميين الإعلاميين الذين يتصارعون اليوم حول ما اذا كانت الأخلاق تتقدّم على المعلومة أم العكس.
إلى جيل الشباب، ينظر العمير بتفاؤل لافتًا إلى أن مشكلة الصحافي العربي اليوم تكمن في أنَّه يريد أن يكون كاتبًا ورئيس تحرير بسرعة. أضاف quot;المسألة الثانية تتعلق في الجانب التدريبي وهو الأهم، لكن في الوطن العربي محدود، وفي الشركة السعودية للأبحاث والنشر كانت هناك خطة لمواكبة الحدث آنذاكquot;.
المغرب نهضة إعلامية
أما عن تجربته في الاستثمار الإعلامي في دولة المغرب فقال: quot;المغرب بلد ناهض إعلاميًا بشكل قوي، وللأسف كثير من العرب لا يعرفون التطور الهائل في مجال صناعة الصحافة ، فالمغرب يتمتع بحرية صحافية لا تتوفّر في المشرق، كون ألأنظمه فيه ميسرة، وقد إخترت المغرب نظرًا لعلاقتي المتميزة بسبب وجودي فيه فترة طويلة، إضافة إلىالتجربة المغربيَّة بسبب موقع المغرب الجغرافيّ وقربه من أوروبا. والمشروع أصبح اليوم ناجحًا،على الرغم من أنه عانى قليلاً في بداياته، ويكفي أنه لم يعد أحد خاسرًا من المغربquot;.
القفص الذهبيّ... لندن نجّتني!
وتفاجأ العمير بمداخلة من الحاضرات تنص quot;أن لديك كثيرًا من المعجباتquot;، فارتسمت على وجهه ابتسامة خجولة، بينما أجاب على سؤال من الحاضرات، quot;عن عدم زواجه إلى الآنquot;، بالقول ممازحًا quot;لا يعرف الشوق إلا من يكابدهquot;. أضاف quot;يعرف من يعيش في الغرب نوع الإفلاس المرتبط بالزواج، الذي تحدثت عنه كثيرًا، فقد لقيت شخصًا بريطانيًا في طائرة، وتحدث عن تجربته في الزواج والطلاق، فقال لي: خسرت نصف ثروتي، التي ذهبت لزوجتي الأولى عند طلاقي، وربع النصف الآخر ذهب لزوجتي الثانية عند طلاقي، والآن سوف يذهب الربع الباقي من ثروتي لزوجتي الثالثة، التي أنوي طلاقها.. وهذا هو المقصود بربط الزواج بالإفلاسquot;. ولفت العمير إلى أنَّ quot;مسألة زواجي شخصيه أكثر من أي مسألة أخرى، فأنا ذهبت إلى لندن وانا صغير فكان جلّ وقتي للعملquot; ليضيف ممازحًا quot;بعد بلوغي هذا السن، أصبحت غير مرغوب فيه!quot;. لكن إحدى الحاضرات ردت قائلة quot;بل ما زالت محط إعجاب الكثيراتquot;.
كلمة عثمان العمير
السيد الكريم بن الكريم الشيخ \ عبد المقصود خوجة
السيدات والسادة الأفاضل
أشكر الزملاء الأساتذة والزملاء الأفضل على العبارات الرائعة التي سمعتها، ويصعب على المرء أن يتلقى اعترافًا من أفاضل دون شعور عميق بالمعنى الأصيل، والعطاء المميز النابع من تلك النفوس التي جادت بذلك.
كما لا يسهل على المرء الحديث عن نفسه وعن عقود قضاها على ظاهر هذه الأرض لأن الحديث عن النفس غير محمود، حيث يمكن استعارة مقولة عبد الملك الزيات، المثقف والديكتاتور والوزير، في أن العدل خور في الطبيعة، وأذى يجب إماطته عن الطريق، خاصة أننا في عصر هاتك للأسرار، مقتحم لكل الخصوصيات، وقاتل لدهشة المعلومة من الوريد إلى الوريد.
اذًا دعوني استلهم من هذا المكان المقدس بالنسبة لنا فكريا وثقافيا وأدبيا، لأعبر إلى ماض حضر كله كزغرودة فجر، وعنفوان طير محلق في أعماق الذاكرة. انه لزام علي، وأنا أتلقىثاني تكريم، داخل بلادي أن أعرج إلى هناك... إلى الأمس حيث الشمال من هنا، إلى (يثرب) لاستشرف، من تلك الروابي والبقع وتلك السفوح والجبال (الحرات) وذلك العقيق، الذي يفوح تاريخا ويتموج مشية عمرية مسكا وعنبر.
من تلك البقعة حيث ثراؤنا الروحي، وخزاننا العابق تراثا وحكمة وأصالة. بدأت البواكير، وبدا تعلم ما يمكن للذهن المتواضع القدرة على تعلمه.
إن ابتهالات المتصوفين وأصوات الزائرين ونداءات المقرئين الجماعية، وحناجر الصبايا وزعيق البائعين تتلاطم في أدغال هذا الدماغ، تتجمع ذرات وذرات، في حملة تحريضية، على استشفاف الماضي البعيد والدخول إلى نوافذه، والاحتكام إلى غرفه، ومواضعه.
ولكن أينها؟ وكيف يمكن أن تعود إلى أماكن زالت، وأسواق معتقة بخمرة التاريخ ورائحة الإنسان ذهبت؟!.
للأسف لقد ذهبت كل بصيرة وذاكرة للمكان لدينا.
الايطالي عندما يذهب إلى البندقية، يجدها كما تركها أهلها، قبل خمسة قرون، تتزين للزائر، منذ خمسة قرون ، فهذا مايكل أنجلو، وهناك رافيال ،وهذا دافنشي، وذلك فافالدي .
أما لندن فأنت تستطيع العيش فقط على الخبز والزيتون، وتاريخ، لا تمل لمسه، ومشاهدته، أو قراءته وتمثله. هنا تعشى شكسبير. هنا عانق أوسكار وايلد وهنا قضى فولتير أيامه في لندن. وكذلك يفعل الشامي والهندي والمغربي، كل يريد أن يستظهر تاريخه. كل يتوق للذهاب إلى مدرسته الأولى، وزقاقه الأول وبيت مربيته وخالته وعمته وجدته.
لنبتعد عن فتح الجروح والجراح، ونتحدث عن ما يمكن تقديمه للمستقبل، للمهنة التي أمضيت، فيها ما يقارب من نصف قرن، فلم احسب نفسي دائما وأبدا إلا خادما مطيعا، لهذه المهنة مخلصا لها.
لقد دخلت مغامرة الانترنت، وكنت حريصا كل الحرص ،على أن تكون هذه المغامرة ،تتمتع بلفتة بارزة تضيف لجيلي، والأجيال المقبلة، شيئا ما.
لاشك في أن التغير، في العالم، خلال السنوات الخمس عشرة الماضية، في مجال هجمة المعلومات، يفوق ما حدث للعالم كله في عشرين قرنا.
لم تعد الكنائس والمعابد والبيع والقصور والطغاة والقواد والاباطرة، يتحكمون في المعلومة وإيصالها - كما وكيفا. أصبحت في متناول الجميع بلا استثناء للرياح وللطيور وللبلابل وللإنسان.
لقد عمل الفنانون من أعمال نحت ورسم وشعر، ومن ثم المصلحون الاوائل، على زحزحة المقدس الكاثوليكي، من مكانه ونجحوا بالدموع والمذابح والجبابرة والمأزومين من أباطرة وملوك وزعماء، وخلال قرون كان للنبوغ البشري الفضل الأول فيها من مطبعة، وصحيفة، ومسرح، وموسيقى.
والآن نستطيع في هذه الفترة القصيرة، والحق أننا نتفرج ونستهلك النجاح في تعميم المعلومة على وجه الأرض. ومنها ننطلق أو الجيل الذي بعدنا، إلى عوالم مغلقة سنستبيح أسرارها فيما بعد. هذه الحقيقة الهائلة تتطلب منا جهدا، غير سهل في العمل، حثيثا، من اجل التقاط كرة النار، الملتهبة هذا الفايروس، الجميل، وتعميم لهيبه بأيدينا نحن، وبقرارنا نحن. المسألة لم تعد ترفا ولا نزهة ولا رحلة سياحية. انه اختبار جديد لنا، فهل سننجح في الامتحان؟ ذلكم هو السؤال.
أيها السيد بن السيد. أيها الجمع العزيز على نفسي بكافة أطيافه. لا أتذكر أجمل من هذه اللحظة السعيدة، على نفسي، إلا لحظة اسعد، عندما التقيت صدفة بالأديب والشاعر الكبير محمد حسن عواد في مبنى جريدة البلاد حرر الله قيدها، وأعاد لها القها، فطرت فرحا، لأنني سعدت بلقاء العواد.
هذه الليلة سأطير إلى نيويورك وأنا سعيد جدا بلقائكم.
التعليقات