يُعدّ رمضان من الأشهر التي تكثر فيها الانشطة التراثية، وموسما جيدا لإحياء العديد من العادات التي توشك على الاندثار، وإن كان التطوّر سمة حضارية تميز بني البشر فإن الطعام يُعد مكونًا أساسيا من مكونات تقاليد الشعوب وأعرافها.

ان دراسة انواع الطعام تعد من أبرز الأمور التي من خلالها نفهم البيئة الجغرافية والزراعية التي سادت في عصر من العصور لأن مكونات الأطعمة تكون ابنة بيئتها، حيث اشتهرت مكونات الأكل في البيئة الخليجية الصحراوية بالتمور والبر والشعير واللحوم فيما افتقرت نوعا ما الى الخضار كما نجد انتشار المأكولات البحرية لا سيما في المدن المتاخمة للسواحل، ومع الانفتاح العالمي الذي نشاهده اليوم وسرعة الاتصال تمكنت الشعوب من نقل عاداتها الغذائية واطعمتها كما ان رخص السلع وانتشار الفضائيات ووسائل التنقل السريع كلها ساهمت في نقل quot;الحضارات الغذائية quot; للشعوب بحيث أصبح الشامي يأكل السوشي والياباني يتناول الهمبرغير والجبن.

وفيما أصبحت كلّ خيارات الأطعمة مطروحة أمام الناس لا سيما ممن يحظون بدخل مرتفع فإن شهر رمضان يعيد بعض التقاليد الغذائية الى الواجهة من جديد حيث نجد الانسان يقبل على مأكولات بلده التقليدية بالدرجة الأولى. وتحظى المأكولات الشعبية بالأولوية في المائدة الرمضانية في الامارات إذ اننا نجد عزوفًا عن ارتياد الفنادق و المطاعم العالمية حيث يفضل الناس الافطار في بيوتهم مع عائلاتهم متحلقيّن أرضًا على موائد تقليدية فيما نجد ان بعضًا من ابناء الجيل الجديد يفضل الأطعمة العالمية كما يجد ان العادات تغيرت مع تطور الزمن. حاولنا ان نستطلع بعض الاراء للوقوف على أهم المأكولات الشعبية المرتبطة بالتقاليد الرمضانية التراثية والتي كان يحرص أهل الإمارات قديماً على القيام والالتزام بها.

الهريس سيد المائدة الاماراتية

تقول أم مايد بن سعيد وهي امرأة في عقدها الخامس تقريبا : quot;أجواء رمضان تبدأ عندنا من منتصف شهر شعبان اي قبل رمضان ونسمي هذه الليلة quot;حقّ الليلةquot; او quot;حقّ اللهquot;، حيث نوزّع على أطفال quot;الفريجquot; (الحي السكني) حلويات ومكسرات كانت تأتينا من بلاد quot;العيَمquot; (من ايران)... اذكر اننا كنا ننشد: quot;عطونا حق الله يرضى عليكم الله، جدام بيتكم دله، عسى الفقر ما يدلهquot;. فإذا اعطونا الحلويات فرحنا ودعونا لهم... ومن يتأخر ولا يعطينا - وهذا نادرا مايحصل ننشد له دعوة مناقضة فنقول :quot; جدام بيتكم طاسه، وعجوزكم محتاسهquot;.

أم مايد لا تزال تحرص على طبخ كلّ الاكلات التقليدية كما أنها لا تزال الى الآن تعجن وتخبز الخبز التقليدي، مؤكدة ان مائدتها الرمضانية لا تخلو من الهريس والثريد (الفريد) والعصيدة، والمشبوس وهي من الموالح أما بالنسبة إلى الحلويات فإنها تصنع اللقيمات، والبلاليط، المحـلى، الغميلي، الرقـاق والساقو والهرروت والخنفروش...وغيرها. وتقول الهريس سيد المائدة عند كل العائلات الاماراتية.

القهوة من الدلّة الى المزلّة رحلة تحضير طويلة

القهوة زينة المجالس بعد الافطار

خليفة (بو حمد) تجاوز السبعين ولا يزال يحرص على الجلوس امام باب الدار دون تكييف مصطحبًا دلّة القهوة ويقول: quot;لم تكن هناك مكيفات وكنا نجلس امام العريش. ..هواء المكيف يمرضني quot; وهو حريص على شربها وإعدادها على طريقته فهو محترف صنع القهوة وquot;شاي الكركquot; كما قال. سألناه عن كيفية التحضير فقال: quot;زمان أول كان تحضير القهوة العربية يمر بمراحل وكنّا نحرص ان تبقى نقية بلا كدر (شوائب) وساخنة بشكل دائم في الدلة، لان ذلك يمنحها الطعم المميز والنكهة الخاصةquot;.

وعن طريقة صنعها فإنه يغلي البن (وكان يأتي من اليمن ) والماء في الدلة الكبيرة التي تظل دائما فوق النار وكان يسمى بـquot;الصريدانquot; او quot;الخمرةquot;، وثم تصب القهوة من الخمرة في quot;دلة التلجيمهquot; الأصغر منها حجماً، وهنا يضاف اليها quot;المسمارquot; وهو ما يعرف quot;بكبش قرنفلquot; في بلاد الشام كما يضاف الهيل، والاثرياء يضيفون الزعفران ايضا و ماء الورد، ومن ثم تنقل بعد ان تُصَفّىquot; الى دلة التقديم التي تسمى quot;المزلةquot; وتكون حينها القهوة مصفاة ونقية وجاهزة للتقديم و تقدم مع الفوالة والتمر للضيوف.

ينظر ابو حمد بحنين غريب quot;للفريج القديمquot; على الرغم من عيشه الان في فيلا فارهة الا انه يشير الى انه فقد الكثير الذي لا يُعوَض وأهمه الإلفة والحميمية حيث كانت المنازل متجاورة وعدد الاناس في الحي قليل ويعرفون بعضهم البعض جيدًا، حيث كانت زيارة الربع عقب التراويح واجبة كل يوم وكان تبادل طعام الفطور في ما بينهم قبل آذان المغرب من الامور اليومية الواجبة حيث ينتشر الاطفال في السكيك حاملين الاطباق ينقلونها من دار لأخرى. وروى لنا بوحمد عن المجالس في القديم حيث quot;تدَّق السوالفquot; ( احاديث السمر) كما كان يتندّر quot;الرّبعquot; بالشعر النبطي والفصحى ويفتح اعيان البلاد موائد كبيرة للافطار.

رمضان. .. عادة تندثر وأخرى تنتشر

اختفاء المسحراتي وانتشار الخيم الرمضانية

وفيما تستذكر ام مايد المسحراتي quot;الطبالquot; وهو يدور في الفريج يوقظ النيام وينشد أناشيد quot;المالدquot; ويرتل الادعية، نجد ان بعضًا من الجيل الجديد غير قلق من اختفاء هذه الظاهرة وغيرها من الظواهر التقليدية.

نورا محمد شابة في العشرينات بدت غير مهتمة بالعادات القديمة مؤكدة ان لكل عصر عاداته وتتساءل: quot;كيف لنا ان ننقل الطعام والمسافة بين الاقارب طويلة ولا نعرف من هم جيراننا أصلا مؤكدة انها تتابع المسلسلات وتستريح من العمل في رمضان. .. وانها تحرص على الأكل الخفيف في رمضان وهي تأكل quot;الستيكquot; والخضار ولا تقترب من المأكولات الشعبية الممتلئة بالسمن والزيتquot;.

هي لا تذكر المسحراتي وقالت ان المنبه كفيل بايقاظ النائمين، كما انّ معظم الناس اليوم يمضون اوقاتهم في السهر حتى السحور لأن الخيارات أمامهم كثيرة والمغريات كبيرة بوجود الفضائيات التي تعرض المسلسلات المتواصلة، والاسواق والسناتر المفتوحة طيلة الليل تقدم العروض والحسومات وتدفع بالانسان نحو التسوق الدائم، والخيم الرمضانية التي لاتبخل بعرض فرق العود وتقديم الشيشة والمأكولات اللبنانية الخفيفة والحلويات المميزة، لذلك فإن نورا تجد انه لا يوجد أحد ينام ثم يستيقظ كما كان في السابق حيث لا يوجد شيء يقوم به الناس غير الزيارات فينامون ثم يستيقظون مرة اخرى للسحور.