أنكر بشار الأسد في حواره الأخير مع محطة laquo;ايه بي سي الأميركيةraquo; أنه مسؤول عن القمع الدموي للمطالبين بالحرية في بلاده. لكن القول إن هذه كذبة كبرى ما هو إلا أسهل الأحكام عليه... فهناك الكثير الذي كشفه الرئيس السوري من حيث لا يقصد.

الرئيس السوري خلال حواره مع باربرا وولترز


لندن: المعلقون الذين تابعوا لقاء بشار الاسد والمذيعة الأميركية المخضرمة باربرا وولترز على شاشة laquo;ايه بي سيraquo; اختاروا الطريق الأسهل على الإطلاق، وهو التركيز على laquo;الأكاذيبraquo; التي أطلقها الرئيس السوري.

نعم، هذه laquo;كرة سهلةraquo; دحرجها الأسد بنفسه، ومن حيث لا يقصد، لأولئك المنتقدين. فقد زعم أنه لم يصدر الأمر بالانقضاض على أيٍ من المتظاهرين. وليس هذا وحسب بل مضى ليزعم أن سائر المسؤولين في نظامه براء أيضا من أي أذى لحق بأولئك الذي خرجوا للمطالبة برحيله.

ولكن، تبعا لمجلة laquo;فورين بوليسيraquo; الأميركية، فإن حقيقة أن الأسد حاول إخفاء الحقائق لا تعني تلقائيا أنه سد الطريق على الذين يرغبون في التعرف إلى خبايا ما يحدث داخل سوريا ومؤسساتها.

والواقع أنه فتح لنا نافذة نطل من خلالها على أسلوب فهمه هو للتركيبة السياسية السورية واستراتيجيته المزمعة لاجتياز هذه المرحلة العسيرة في رئاسته.. فتعلمنا أشياء عدة.

من بين هذه أن بشار ليس رجل الشعب. ولنعد بالذاكرة إلى مطالع الثمانينات حين واجه أبوه حافظ الأسدانتفاضة الإسلاميين في أخطر تهديد من نوعه للنظام. فانقض عليهم بدموية تفوق التي يلطخ بها الابن يديه الآن.

ومع ذلك فقد تمكن الأب، في الآن نفسه، من الجمع بين هذه القدرة على القمع والنجاح في إقامة رابط بينه وبين السوريين وعلى حساب سلامته الشخصية في كثير من الأحيان.

وفي هذا الصدد كتبت laquo;نيويورك تايمزraquo; في مارس / آذار 1982 أن حافظ الأسد ألقى خطابا في ذكرى توليه السلطة قبل أن يصعق الجميع بنزوله إلى الجماهير والسير معهم في تظاهرة لكيلومترات عدة في شوارع دمشق الرئيسة.

وكان محمولا على الأكتاف ومحاطا بحب شعبي لا مثيل له. ذلك انه كسر بنفسه الحائط الأمني المنيع الذي يحميه من رجل الشارع العادي في حدث غير مسبوق أذهل القائمين على أمنه قبل غيرهم.

قارن هذا بما فعله بشار - لجهة الالتصاق بالجماهير - حتى الآن: حوار مع هالة جابر من laquo;صنداي تايمزraquo; البريطانية في أواخر الشهر الماضي، ثم هذا الأخير مع باربرا وولترز على تلفزيون laquo;ايه بي سيraquo;. لكنه لم يوجه مجرد كلمات يخاطب بها شعبه الذي يتطلع إلى سماع شيء منه في هذا الوقت الحالك.

ولهذا الأمر نفسه مغزاه المهم. فربما أبدى الرئيس السوري تأففه مما يعتبره laquo;تخريباraquo; على يد الغرب (وبعض الدول العربية)، قائلا إن هذا لن يؤثرفي الشعبية التي يتمتع بها داخل بلاده. لكن اختياره لمنبرين غربيين (صنداي تايمز وإيه بي سي) ليتحدث فقط عبرهما يناقض موقفه المعلن هذا.

وإحدى النقاط المهمة التي تكشف الكثير في لقائه مع وولترز هي روايته عن الكيفية التي تسلم بها السلطة في بلاده. فتبعا له نعلم أنه لم يرث السلطة عن أبيه الذي تولاها لثلاثين عاما بيد من حديد، وأن أباه نفسه لم يعدّه لخلافته ولم يكن يريد له الخلافة أصلا. كيف تسلم السلطة إذن؟ يجيب قائلا: laquo;صرت رئيسا فقط نزولا عند رغبة الشعبraquo;!

هذا هو نوع المناخ الذي خلقته المؤسسة السياسية السورية بحيث يتيح للرئيس إنكار أي علاقة لقوات أمنه بالعنف المخيف الذي يلاقيه المتظاهرون، وأيضا الإفراط في التوهم... فقط انظر الى قوله: laquo;هذه ليست قواتي. إنها قوات عسكرية تابعة للحكومةraquo;. لا تعليق هنا ولكن أقل ما يمكن أن يقال هو إن شقيقه (ماهر) ضابط (برتبة عميد ركن)، وإن العابر للحدود اللبنانية - السورية يجد لافتة ضخمة تعلن له أنه يدخل laquo;سوريا الأسدraquo;.

هذه هي المؤسسة السياسية التي تتيح لرئيسها أن يرفل كما شاء في أوهامه. ورغم أن المؤسسات السياسية قابلة، في الظروف العادية، للإصلاح، فإن السورية منها لا تخضع لهذه القاعدة لأنها لا تتعدى كونها إقطاعية حقيقية لا يمكن إزاحتها إلا عبر ثورة شاملة.

وبشكل عام فمن الصعب على المرء أن يفهم الحكمة وراء موافقة الأسد على حواره مع وولترز وما الذي كان يظن أنه سيجنيه منه وراءه. فقد بدا بمعزل عن الحقيقة والواقع، وأطلق الكلام على عواهنه فأتى بمتناقضات عديدة، وأصر، رغم كل شيء، على أنه يتمتع بوقوف الشعب السوري الى جانبه. وهكذا أصبح أول ما تعلمناه من هذا الحوار هو أن الرجل ليس جديرا بمنصبه.