المقال ليس عن ماض او افتراض كما يتصور ربما بعض القراء، بل هو يمس حاضرنا العربي بكل نيرانه المشتعلة المخيفة، وبكل فوضاه التي لم يتقرر بعد مصيرها، فإن استشعار ما يمكن أن يتخذه رجل دولة عربي سابق ضليع في الممارسة السياسية في وضع كالذي نحن فيه ليس من أدبيات الماضي ولا من الخطاب الموهوم، بل يدخل في صميم التقكير السياسي ولب التحليل السياسي، بصرف النظر عن الموقف الشخصي او الحزبي أو المذهبي اوالايديولجي من هذا الرجل، وليس سرا، كثيرا ما يفكر سياسيون بالموقف الذي قد يتخذه سياسيين آخرين يتسمون بالحنكة والقدرة والقابلية في مواجهة الازمات، استرشادا واستمزاجا واستفادة...
والآن...
ماذا لو كان الرئيس السوري الراحل حافظ اسد موجودا ؟ اطرح هذا السؤال واضع بداية زمنية محددة تتجسد بحدث كبير ضخم، هي لحظة سقوط نظام صدام حسين سنة 2003، حيث كانت بداية كل هذا الاهتزام الذي تشهده المنطقة.
الخطوة الاولى التي أتوقعها في سياسة الرئيس السوري الراحل هي التفاهم بصيغة وأخرى مع واشنطن في ادارة الوضع في العراق وفق قواعد لعبة التوازن بين عناصر القوة في العراق المتوزعة بين السنة والشيعة والاكراد، مستفيدا من تجربته في لبنان، ادراكا منه إن واشنطن لم تسقط صدام حسين حبا بالعراق وصالح شعبه، بل لاهداف ستراتيجية بعيدة المدى، وفي مثل هذه الحالة، وتقديرا للوزن الكوني الكبير للولايات المتحدة الامريكية، يكون من الخطا مواجهة هذه القوة العظمى في العراق بقدر التفاهم معها، وبما يخدم سوريا بصورة من الصور، كان قد عمل على إقناع واشنطن بحاجتها إليه، والرئيس السوري الراحل بارع في مثل هذه السياسة.
الخطوة الثانية التي أتوقعها في سياسة الرئيس السوري الراحل في مثل الظروف التي يمر بها العرب هي المزيد من التفاهم مع المملكة العربية السعودية بشكل خاص، ودول الخليج العربي بشكل عام، خاصة وهو الذي كان على علاقة وطيدة بالرياض وكل أنظمة الخليج، فيما علاقته وطيدة في ذات الوقت بالجمهورية الإسلامية الايرانية، والتوازن أو لعبة المشي على الحبال المشدودوة بدقة وبراعة كانت أحدى مميزات السياسة الاسدية، لقد سمح اسقاط نظام صدام حسين ببروز الطائفة الشيعية في العراق قوة فاعلة، فهي الاكثرية، وهي المتضررة الاكثر من غيرها في ظل حكم صدام حسين، وبالتالي، فإن بروزها ليس في صالح دول الخليج العربي، وليس سوى حافظ الاسد لتامين هذه المخاوف، لدوره كشخص، وموقع سوريا، وعلاقتها المتميزة بايران، ولعلاقة النظام العميقة بل والخاصة بالكثير من رموز المعارضة العراقية الشيعية بل والسنية أيضا، والسعودية كانت تثق بفلسفة الاسد السياسية القائمة على لعبة توازن القوى... وكانت تدعمه في سياسته هذه...
الخطوة الثالثة في تصوري هي استمرار سياسته القائمة على توازن القوى في لبنان، لم يسمح لاي قوة أن تكون راجحة بما يؤهلها للتحكم بلبنان أو فرض وصايتها على الاخرين، سواء هذه القوة كانت سنية أو شيعية، مسلمة أو مسيحية، لبنانية أو فلسطينية، ولم يسمح لاي قوة أقليمية أن تخل بهذا التوازن الذي خلقه بنفسه، في بحر من السنوات الطول، وعبر جهود مضنية، بحيث سخر له الجامعة العربية وكل الانظمة العربية تقريبا.
الخطوة الرابعة كما اتوقعها كانت المزيد من الانفتاح داخل الساحة السورية، الانفتاح الفكري والديني والاقتصادي، ولادخل في منظومة الحكم عناصر جديدة تتسم بالشفافية والتطلع، ولاشرك الكثير من الرموز السياسية التي كانت محسوبة على المعارضة، ولأصدر أوامره للاعلام بخلق جو مفتوح للحديث والكلام عن الحرية والديمقراطية، ولعمل على توطيد علاقته اكثر بالبرجوازية السنية في دمشق وحلب وحماه، اي سوريا عموما.
الخطوة الخامسة هي المزيد من التعاون مع تركيا لمواجهة الحركات الكردية، خاصة داخل تركيا بالذات، واقناعها بضرورة العمل على دعم سياسة التوازن داخل العراق، فليس غير سياسة التوازن بين مكونات الشعب العراقي على طريق استقراره وامنه وتطوره، وفي هذا السياق سوف يعمل على أقناع الجمهورية الاسلامية الايرانية بترك الشان العراقي للعرب، وبما يضمن عدم الاستفادة من الوضع الجديد من أي نظام عربي للاضرار بايران، لانها حليف قوي لسوريا.
لا اعتقد أن سياسة الاسد الراحل في مثل الظروف التي نمر بها تقوم على مزيد من تأزيم الوضع في العراق، بل على تهدئة البلد وبما ينعكس حتما على مصلحة سوريا بالدرجة الاولى، ولا اعتقد أن سياسة الاسد الراحل تعتمد القطيعة مع دول الخليج، ولا مع تركيا، ولا تتوسل بلغة القوة صرفا،بل تعتمد سياسة الجزرة والعصا، وهو بارع في إدائها.