غالب حسن الشابندر: صدر عن دار العارف للمطبوعات في بيروت كتاب (القط... زوربا العظيم... عراق الحب... والحرب)، الطبعة الاولى سنة 2011، 220 صحفة من القطع المتوسط، للكاتب العراقي الساخر فاضل عباس، وقد سبق للكاتب المذكور أن أصدر كتاب (زقاق الالم) تعرض فيه إلى معاناته الشاقة في سجون الديكتاتورية الصدامية، وفي كتابه الجديد يتصدى لمحنة الانسان العراقي الشريف في عراق صدام، باسلوب متميز، لغته الخارجية سخرية متدفقه، ولكن لغته الداخلية تيار من الالم والشجن، لا يدعك أن تضحك إلّا وأنت تصرخ معه، تشاركه مشاعره الانسانية الجياشة، فتختلط الدموع بالضحكات، وتمتزج النكتة بالنكبة، باسلوب لا يستدعي بعضه بعضا، بل قفزات تتقدم إلى الامام لتحضر القفزات السابقة مرة أخرى، وبذلك يمضي بك سياحة دائرية معقدة، دوائر من الصور الحادة الشفرة، الممتلئة بالحدث، وليس كل حدث، بل الحدث الذي يشكل بحد ذاته مأساة قائمة براسها.
القط زوربا هو الانسان العراقي الذي أنف الظلم والاضطهاد وقرر أن يقول كلمته الحرة الرافضة، فجاءه قرار حذفه من الحياة، ومنذ هذه اللحظة تبدأ محنته مع زوار الفجر، وجلاوزة الروح والضمير.
سخرية الكاتب ذات طابع فريد، تستمد مادتها من الحياة المحسوسة،ولكنها ممزوجة بتصورات شبه قدرية خفية، وإمضاء شبه جبري متلون الظهور، حسب تغير الازمان والامكنة، مشحون بالامثلة الشعبية، والاهازيج القديمة، متطلع لحياة كان يحلم بها منذ الصغر، ولكن طالما المقادير تمضي عكس المطلوب.
يبدو الحياة في نظر الكاتب الساخر حقيقة ليست مرّة بحد ذاتها، ولكن مرارتها التي كان يعاني منها كما هوشأن الملايين من العراقيين طارئة، حيث يخيم شبح حزب البعث على السرد من بدايته إلى نهايته،ولكن ليس بالاسم الصريح، وإنما بالمسميات والايحاءات، مما يعطي للسرد نكهة الجذب والتطلع لما بعد السطور، ومثل هذا الفن يحتاج إلى خيال واسع، ودراية جيدة بفنون الاداء، ومن أجمل فصول الاداء أن يحشر حقائق سياسية واجتماعية وفكرية في زحمة النكتة اللاذعة (نحن جيل الأزمات،جيل الصراخ والعنف والبوكسات، نحن جيل أنتهت وللاسف صلاحيته، بالكاد نحس بالحياة،وبالكاد نسايرها...) ص 55
المحاولة غنية بالمصطلحات والمفردات الشعبية والادبية، الاجنبية والعربية، القروية والمدينية، مما يشي عن سعة اطلاع بالفلولكور العراقي، وعن سعة مسبقة بالتراث الشعبي العراقي، وكلها يوظفها لتعميق الشعور بالمأساة !
الكاتب الساخر فاضل عباس يدخل في أعماق المشكلة التي نعاني منها نحن العراقيين، وهو لا يدع النكتة تتسلط على هواجسه، فتسيح به في دنيا السخرية الفجة، بل هو الذي يسيطر على النكتة، يجيرها لمشروع ببراعة مذهلة.
يتكلم عن البكاء الخالي الوفاض حينما نزلت الطائرة بالعراقيين العائدين ليقول : (آخر على شيب ابهاتكم ده تبجون؟ لو هية سولة، بجي وبس، صدام وانتعل سلفه سلفاه، والبعثية أنطردوا.. مو صار لنا اربعين سنة نبجي ونرجع الليروره، والآن،ها قد آن الآوان، لنترك البكاء والنوح، والتفاؤل ....) ص 86.
فهي السخرية الهادفة، سخرية البناء، فالكاتب ليس الضاحك المضحك، بل الضاحك المبكي، وتلك ميزة الكاتب الساخر الذي يريد النهوض بمجتمع تنخر فيه عوامل الياس والقنوط والخوف والملل.
التاريخ حاضر في سرد زوربا، حاضر كشاهد على العراقة والابتلاء في نفس الوقت، وبالتاريخ يختم سرده الساخر، المليء بالحب والحرب، فالعراق بلد الحب والحرب، نقيضان، ولكن يبدو هنا تكمن عبقريته، ورحلة زوربا في التاريخ تقود به إلى تاريخ (ابتسم زوربا وأرخى نفسه المقدسة،امتدت يد الغيب وعانقت روحه، فارتخت يداه، ورفع راسه على الارض المباركة،أغلق عينيه، لآخر مرة...
لآخرمرة رأي فيها العراق.
حبيبي زوربا، في رعاية الله...) ص217.
وكانت الرحلة الاخيرة...
أبدٌ معكوف على بدء، وضاع بينهما الامل، وبقيت دموع الماضي هي الشاهد على نفسها بان تبقى حية، تقاوم كل محاولة لازاحتها، ولكن يبدو أن زوربا قرر الرحيل كي يحي الباقون...