صلاة الجمعة بتقديري شعيرة دينية جميلة، يمكن أن تؤدي خدمات اجتماعية رائعة على طريق بناء مجتمع خير متسامح، مجتمع متعاون، متسام، نشط، حيوي، فاعل، ولكن للأسف الشديد كثيرا ما تستغل هذه الشعيرة لبث فكر إرهابي، فكر تخريفي، فكر جاهل، فكر ينخر في الذات، ويحفر في داخلها أوكار الهزيمة الروحية، ويغذي الوجدان المستمع بسموم مميتة، حيث تتطاير شرر القتل والذبح والقطيعة والتكفير والتضليل واللعن والسب والشتم...
صلاة الجمعة ليست ملك خطيب الجمعة، بل هي ملك المجتمع، ملك الإنسان، ملك المصلين، ملك أبناء المدينة، أبناء القرية، ملك الغني والفقير، ملك العالم وغير العالم، ملك المسلم وغير المسلم، ملك الملتزم وغير الملتزم، ملك الرجل والمرأة، ملك الكبير والصغير، وبالتالي،يجب أن تتوجه خطبة الجمعة إلى الخير العام، وليس هناك أصدق من الدعوة إلى الأخلاق والعمل الصالح وتزكية النفس وتنقية الوجدان كعنوان حقيقي حي للخير العام.
هذه هي رسالة خطبة الجمعة في تصوري، خاصة في زمن الاحترابات السياسية التي ما طُبعت إلا بالتخوين والتهوين والتكذيب والتضليل والتدجيل.
لقد خرجت خطبة الجمعة من رحاب الخير العام إلى زاوية المنافع الشخصية والحزبية الضيقة، تلك الزوايا المعتمة المخيفة، فقد تحولت إلى أبواق دعائية لهذا الحزب وذاك السياسي، فيما وظيفتها الجوهرية توجيه الناس للعمل الذي من شأنه إشاعة السلام، والوئام، وتفجير الطاقات للبناء والعمران والترميم والتكميل!
لقد أهينت منابر الجمعة، دُنِست، بعد أن تحولت إلى منابر دعاية وليس إلى منابر تربية وتعليم، إلى منابر سياسية بدل أن تكون منابر أخلاقية... أي أصبحت هذه المنابر مصدر شر مستطير، ومدارس حقد ولغو وتشنج وتوتر!
يقف خطيب الجمعة ليحلل الوضع السياسي العالمي أو المحلي أو الوطني، ثم يعطي رأيه الفاصل الحاكم، أي يستغل الخطيب منبر الجمعة لتسويق تصوره السياسي، وبذلك يسلخ هذا الخطيب منبر الجمعة من هويته الحقوقية العامة، حيث يستوجب على الخطيب أساسا تنبيه الناس إلى أنفسهم، ويحفز في داخلهم منشطات العمل الصالح، ويحذرهم غواية الشيطان، ويحذرهم من ارتكاب الحرام، وكل ما من شأنه الإساءة إلى الاجتماع البشري، والعمران الإنساني. ولست أدري من أباح لهذا الخطيب أن يستغل هذا المنبر الشريف لتسويق تصوراته السياسية التي قد تكون باعث مهزلة ومسخرة لهزالها وتفاهتها وسخافتها؟
يقف خطيب الجمعة ليعطي رأيه في حل المشاكل الاقتصادية والعسكرية والسياسية التي يعاني منها البلد فيما شغلته حث الناس على تنظيف بلدتهم التي تراكمت الأوساخ على طرقاتها العامة، والتعاون على البر والتقوى لإنقاذ الأسر الجائعة، وتشجيع الطلاب على مواصلة الدرس والتحصيل بدل الاستهتار بقيمة الزمن الذي لا يرحم كما نعلم جميعا ذلك.
يقف خطيب الجمعة ليحدثنا عن نظريات علمية في الفلك والفيزياء والرياضيات وعلم الاجتماع، في حين هناك مئات من أبناء بلدته يعانون الجوع والمرض والعري، حيث يستدعيه الواجب أن يحث الناس على حل هذه المشكلة أو المشاكل التي يؤدي تفاقمها إلى شل المدينة وتدمير مجتمعها.
أن حل المشاكل الاقتصادية والسياسية والعمرانية شغل علماء متخصصين وليس شغل عالم الدين مهما كانت ثقافته وعلمه ودراسته، فليحترم كل منا اختصاصه ووظيفته، وكم أصاب بالحيرة عندما يبدأ الكثير من الخطباء خطبتهم بقولهم ( ثبت لدى العلم الحديث...؟ ) وكأنه سبر أخر النظريات العلمية وتفحص تضاعيفها بمنطق العلم والفكر الجديد!
حقا أنها مهزلة.
خطبة الجمعة تحولت إلى سوق سياسي، وميدان مبارزة شخصية أو حزبية ضيقة، فضاعت شفافية الخطبة، وغابت وظيفتها الأخلاقية، وانمحت صورتها الإنسانية الكريمة... ميدان سباب وشتائم فيما هي مدرسة الحكمة والموعظة الحسنة.
ليس من حقي ولا من حق غيري أن يمنع رجل الدين من أبداء رأيه في السياسة ومشاكل العالم، هذا من حقه، ومن حق كل مواطن، ولكن أنْ يستغل رجل الدين منبر الجمعة لتسويق أرائه وتصوراته هذه، فذلك مما ترفضه قيم ووظيفة وفلسفة خطبة الجمعة بالذات، لأنها كما قلنا ليست مناسبة مخصصة لشخص ما، أو حزب ما ليتوسل بها على طريق الترويج لفكره ومواقفه وتصوراته وتحليلاته، فلذلك مجال أخر، وما أكثر المجالات المتاحة لمثل هذه المواقف والنشاطات والممارسات. فهناك النوادي، وهناك المقاهي، وهناك الاجتماعات العامة، وهناك الجرائد، وهناك المجلات، وهناك المواقع الالكترونية.
أليس كذلك؟
خطبة الجمعة بيان أخلاقي قبل أي شي آخر، توجيه تربوي يتضمن بناء الذات على عمل الخير، وإشاعة السلام في الأسر، في المؤسسات، في الشارع، حث على مواصلة العمل في سبيل الأخر، بث قيم التسامح والفضيلة والتعاون، وليس تحليلات سياسية، ربما ينطوي الكثير منها على خلل منهجي ووظيفي مخزي.
ما أتعس تلك الخطبة التي تعرض للناس فلسفة الفوضى البناءة التي يعمل بموجبها اليمين الأمريكي الجديد فيما هناك بيوت على مقربة من بيت خطيب الجمعة بات أطفالهم جياعا!!
ما أتعس تلك الخطبة التي تستعرض مشكلة أو مشاكل الصراعات السياسية في الصومال فيما هناك أعراض تنتهك وأجساد يمزقه الجوع والحرمان.
الدعوة إلى الخير، الدعوة إلى حل المشاكل بين الناس بالحسنى، الدعوة إلى إغاثة الملهوف، الدعوة إلى ا لحفاظ على سلامة البيئة، الدعوة إلى احترام الآخر، الدعوة إلى نظافة الروح والبدن والشارع والبلدة والمدرسة، الدعوة إلى المزيد من العلم والمعرفة، الدعوة إلى احترام حقوق الناس، الدعوة إلى الاهتمام بالمسنين والعجزة، الدعوة إلى الإيمان بالقيم الروحية...
تلك هي وظيفة خطبة الجمعة، وليس الحث على القتل، أو تشريح الوضع السياسي، أو الدعوة لهذا الحزب أو ذاك، أو التكفير، أو تخوين الآخر، أو تحويل العواطف إلى نيران متأججة بالحقد وحب الانتقام.
خطبة الجمعة تجمع ولا تفرق...
أن تسمية صلاة الجمعة بأنها الصلاة السياسية جلب مشاكل كبيرة، وسببت اشتطاطات مرعبة في حق الاجتماع الإسلامي، نعم، للسياسة مجالاتها، وليس خطبة الجمعة هي الفرصة الأولى والأخيرة لتسويق الأراء السياسية ونشر الافكار والمواقف أزاء أحداث العالم، فهناك وظيفة أخطر وأهم وأروع بالنسبة لخطبة الجمعة، تلك هي النفس الإنسانية.