1
تتبلور بهدوء وربما بشيء من الانفعالية أيضا وتحت ضواغط كثيرة اتجاهات جديدة في فهم التشيع، وهذه الاتجاهات الجديدة ما زالت جنينية، أي لم تتبلور بعد على شكل تيار فكري جارف أو معتد به في الوسط الجماهيري الشيعي، وحتى على مستوى أهل الخبرة الفكرية والكلامية في المذهب الشيعي الذي أحبذ تسميته بالمذهب الجعفري نسبة للامام الصادق عليه السلام.
هي اتجاهات شيعية بشكل عام، لا تخرج عن الثوابت الجوهرية، وهي في تصوري ثابتان، الاول التعبد بفقه أهل البيت، والايمان القاطع بالمهدي المنتظر موجودا وسوف يخرج يملأ الارض قسطا وعدلا بعد ما ملئت ظلما وجورا.
الحقيقة لا يوجد شيعي لا يؤمن بهذين الثابتين، وبالتالي، يكون الاختلاف خارج هذين الثابتين، وإذا كان هناك اجماع شيعي عقدي وسلوكي إنما على هذين الركنين أو الثابتين الجوهريين.

2
ليس غريبا على التشيع أن يتجلى باكثر من مدرسة واتجاه على صعيد فهمه واستيعابه والعمل بموجبه، فالتشيع تاريخيا كان تيارا من الانشقاقات، فبعد إمام وفاة كل إمام من الإئمة المحسوبين على التشيع الامامي الاثنى عشري تتشكل مذاهب واتجاهات ومدارس جديدة، ولعل ذلك يعود اساسا إلى ثراء التشيع الفكري، وخزينه الهائل من النزعة الروحية، فضلا عن أن العقل يكاد أن يكون (اقنوما) عند الشيعة، فهم يفترضونه بالايمان، ويعملون وفق القاعدة التي تقول بضرورة تأويل النقل على مقتضى العقل فيما كان هناك شيء من الاختلاف الظاهري، وقد كانت النزعة الاسلامية في المجتمع الاسلامي محسوبة بشكل عام على الاعتزال والتشيع، بصرف النظر عن أسبقهما، ولم يكن التشيع نبتة صحراوية جافة، بل نبتة نهرية مدينية، وكل هذا يشجع ويساعد على إحداث نقلات داخلية، وتطورات في صميم الفكر، فالمدينة شعلة نشطة بالافكار والتصورات، وعرضة للوفادة الفكرية في كثير من الاحيان والحالات.

3
الإمامة جوهر التشيع، بها يفترق عن بقية المذاهب، بل وبها يفترق داخله، وفي الوقت الذي كان فيه الاعتقاد بأن الامام هو واسطة الفيض الالهي، لا باعتبار ما (منه الوجود)، بل باعتبار ما به الوجود وبإذن من الله تبارك وتعالى، وتفرَّع على ذلك بشكل من الاشكال القول بالولاية التكوينية، أي أن للامام سلطانا إداريا للكون، فإن هذا يتزامن مع القول بالولاية التشريعية للإمام المعصوم عليه السلام، والولاية التشريعية تعني فيما تعني أن قول الامام وفعله وتقريره تشريع، كما هو النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وينبعث من هذين الاعتقادين الكثير من التفريعات المعقدة والمتشعبة، منها علم الامام الشمولي الكامل بكل ما في الكون ماضيا وحاضرا ومستقبلا، ومنها العصمة سواء في إصابة الاحكام أو السلوك أو العلم، وما شابه ذلك، وهو كثير...

4
هذا التوجه الشيعي الحاد، أو الشمولي تقريبا لم يعد محل قناعات بعض المفكرين الشيعة، وهناك تساؤلات شيعية يتصدرها الشباب الشيعي حول هذه (المسلمات) ولكن من دون الخروج على الثابتين الرئيسيين، أي تعبد الله بالفقه الشيعي، والإيمان بالمهدي المنتظر، ولكن يتساءلون عن مدى معقولية علم الامام الكلي، عن مدى معقولية الولاية التكوينية، ولكنهم مطمئنين الى فقه اهل البيت، وينتظرون المهدي كأي شيعي على وجه الارض.
هذه الاسئلة أخذت تتصاعد وتنمو وتلح، وهناك قراءات جادة لمدى أهمية هذه الاسئلة، فيما بعضهم لا يعيرها أهمية تذكر، باعتبار أنها لا تخرج صاحبها في التحليل الاخير عن ربقة التشيع بشكل عام، خاصة وهناك راي جريء للشيخ محمد رضا المظفر في كتابه عقائد الامامية يقضي بعدم فائدة النقاش والحوار والبحث حول إمامة أمير المؤمنين بعد النبي الكريم، لانها أصبحت من الماضي، فيما بعضهم يرى أنْ لا تشيع ولا إمامة ولا فقه شيعي ولا مهدوية دون التصديق بالولاية التكوينية، ودون الإيمان بالولاية التشريعية...

5
ماالذي جرى وما الذي يجري؟
لقد طرحت مسالة الولاية التكوينية، فلوحظ أنها مستحدثة، اي ليس لها جذر سابق، ومن ثم لا أهمية لها، ولا داع لها، ما دام هناك إله خالق مدبر يرعى الوجود، وهي لا تزيد ولا تنقص من كرامة هؤلاء الابرار الاخيار، وليست ذات فائدة لا عليه ولا على الناس، ولا على ا لوجود قبل ذلك، وفيما يتبلور مثل هذا الاتجاه العقدي الشيعي من الولاية التكوينية، برز اعتقاد مواز على صعيد الولاية التشريعية، مفاده إن أئمة أهل البيت ليسوا مشرعين، بل هم نقلة، ينقلون عن جدهم رسول الله صلى الله عليه وأله وسلم، والغريب إ ن هناك جملة من الروايات الواردة على لسانهم الشريف بهذا المعنى العميق في تصوري.
العصمة هي الاخرى تتعرض للمساءلة، وليس سرا أن بعض علماء الشيعة منذ زمن ليس بالقصير لايؤمنون بالعصمة الشاملة، حيث يطرحون جانبا العصمة بالموضوعات كما يسمونها، فهؤلاء لا يشترطون في الامام أن يصيب حتى في الموضوعات كان تكون مسألة رياضية، بل وفي حكم قضائي،
فهم في هذه الموضوعات كاي إنسان آخر، ربما يتفوقون علميا، ولكن ليس بالضرورة معصومين من الخطا والاشتباه في ذلك.

6
هذه الاتجاهات الجنينية الجديدة ليست معزولة عن تأصيل نظرية الا ئمة في الصحابة، حيث جسدها بشكل واضح إمام المسلمين بحق وحقيقة علي بن الحسين عليه السلام بدعائه الخالد للصحابة،أن مجتمع الصحابة كان أطهر مجتمع عرفه التاريخ، ذلك ورد في بعض بحوث الشهيد الكبير، ضمير الاسلام الخالد محمد باقر الصدر، ولكن هذا لا يعني أن هذا المجتمع كان معصوما كما هي تصورات أكثر أهل السنة، حتى وإن كان هذا الرأي على مستوى نقل الرواية عن رسول الله، اعتمادا على قاعدة إن الصحابة كلهم عدول، فهي فضلا عن خياليتها، ادخلت الفكر الاسلامي بثلاجة فكرية، وتسببت في كثير من الكوارث العلمية والفكرية، ومن المفيد هنا الاشارة إن هناك بعض علماء السنة ومثقفيهم بدأوا يفكرون جديا في معالجة هذه المفردة (الخيالية ) في التراث السني، بل هناك كلام عن نقض فكرة أن كل ما جاء في الصحاح صحيح، وإذا ما تقدمت البحوث في هذه النقطة من جانب أهل السنة والجماعة فإن تقاربا سنيا شيعيا سيكون واقعيا الى حد ما.

7
وقد انعكست هذه الاتجاهات الجنينية حتى في الموقف من الطقوس الشيعية خاصة فيما يتصل بعزاء الإمام الحسين عليه السلام، فقد بدأت الصيحات الواعية تدعو إلى عولمة هذه العزاء اسلاميا، ولكن بلحاظ هيبته الروحية، وبمراعاة الاحكام الشرعية، وبالشكل الذي يتحول فيه العزاء الى إسلام متجسد فكرا وسلوكا، بل يتحول الى دعوة شاملة للخير والتسامح والبركة، بل يتحول إلى مشروع بناء وتعمير وإغناء للحياة، خا صة وإن اهل السنة والجماعة بدأوا يدركون أهمية هذه الشهادة، وراح بعضهم يحيها ويتحدث عن عظمتها ودورها في تكريس القيم الاسلامية الانسانية الطيبة، إن الضمير الشيعي بدأ يستيقظ باتجاه هذه الفهم الموضوعي الحضاري للعزاء الحسيني، رغم ما نشاهده من طغيان للطقوسية الفوضوية، التي لا تحترم الوقت ولا الناس ولا المكان ولا قيم الحسين نفسه سلام الله عليه، هناك ضمير شيعي بدأ يتحرك صوب الامام الحسين وعزائه واهدافه بما ينسجم مع خدمة الانسان والقضية الانسانية، وفي مقدمتها الحرية...
ترى هل يتوجه العقل السني العربي لملاحظة هذه التوجهات الجديدة، كي يبدا مثيلها على صعيد التسنن بالذات؟